في
تواضعه صلى الله عليه و سلم
و أما تواضعه صلى الله عليه و سلم ، على علو منصبه
و رفعة رتبه ـ فكان أشد الناس تواضعاً ، و أقلهم كبرا .
و حسبك أنه خير بين أن كان نبياً ملكاً أو نبياً عبداً ، فاختيار أن يكون نبياً
عبداً ، فقال له إسرافيل عند ذلك : فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد و لد
آدم يوم القيامة ، و أول من تنشق الأرض عنه ، و أول شافع .
حدثنا أبو الوليد بن العواد الفقيه ـ رحمه الله ـ بقراءي عليه في منزله بقرطبة سنة
سبع و خمسمائة ، حدثنا أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا ابن عبد المؤمن ،
حدثنا ابن داسه ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله بن
نمير ، عن مسعد ، أبي العنبس ، عن أبي العدبس ، عن أبي مرزوق ، عن أبي غالب ، عن
أبي أمامة ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم متكئاً على عصا ،
فقمنا له . قال لا تقومو ا كما تقوم الأعاجم ، يعظم بعضهم بعضاً .
و قال إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، و أجلس كما يجلس العبد .
و كان يركب الحمار ، و يردف خلفه ، و يعود المساكين ، و يجالس الفقراء ، و يجيب
دعوة العبد ، و يجلس بين أصحابه مختلطا ً بهم حيثما انتهى به المجلس جلس .
و في حديث عمر عنه : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا :
عبد الله و رسوله .
و عن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء جائته ، فقال : إن لي إليك حاجة قال : اجلسي
يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك .
قال : فجلست ، فجلس النبي صلى الله عليه و سلم إليها حتى فرغت من حاجتها .
قال أنس : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يركب الحمار ، و يجيب دعوة العبد ، و
كان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف . قال : و كان يدعى إلى
خبز الشعير و الإهالة السنخة فيجيب .
قال : و حج صلى الله عليه و سلم على رحل رث ، و عليه قطيفة ماتساو ي أربعة دراهم ،
فقال : اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه و لا سمعة .
هذا ، و قد فتحت عليه الأرض ، و أهدى في حجه ذلك ما أتى بدنة و لما فتحت عليه مكة
و دخلها بجيوش المسلمين طأطأ على رحله رأسه حتى كاد يمس قادمته تواضعاً الله تعالى
.
ومن تواضعه صلى الله عليه و سلم قوله : لا تفضلوني على يونس بن متى ، و لا تفضلوا
بين الأنبياء ، و لا تخيروني على موسى ، و نحن أحق بالشك من إبراهيم و لو لبس ما
لبس يوسف [ 42 ] في السجن لأجبت الداعي .
و قال للذي قال له : يا خير البرية : ذاك إبراهيم .
و سيأتي الكلام على هذه الأحاديث بعد هذا إن شاء الله .
و عن عائشة ، و الحسن ، و أبي سعيد و غيرهم في صفته ، و بعضهم يزيد على بعض : و
كان في بيته في مهنة أهله يفلي ثوبه ، و يحلب شاته و يرقع ثوبه ، و يخصف نعله ، و
يخدم نفسه ، و يقم البيت ، و يعقل البعير ، و يعلف ناضحه ، و يأكل مع الخادم ، و
يعجن معها ، و يحمل بضاعته من السوق .
و عن أنس : إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه
و سلم فتنطلق به حيث شاءت حتى تقضي حاجتها .
و دخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له : هون عليك فإني لست بملك ، إنما
أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد .
و عن أبي هريرة : دخلت السوق مع النبي صلى الله عليه و سلم ، فاشترى سراويل و قال
للوزان : زن و أرجح ـ و ذكر القصة قال : فوثب إلى يد النبي صلى الله عليه و سلم
يقبلها ، فجذب يده ، و قال : هذا تفعله الأعاجم بملوكها ، و لست بملك ، إنما أنا
رجل منكم . ثم أخذ السراويل ، فذهبت لأحمله ، فقال : صاحب الشيء أحق بشيئه أن
يحمله .