الشفا بتعريف حقوق المصطفى
القا ضي عياض
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة المؤلف
مقام
عياض مثل مقام البخاري والأئمة الأربعة؛ فهم حملة الشريعة وعلومها التي يبثُّونها
في صدور الرجال بالتلقين والتأليف، ذَبُّوا عن الشريعة بسيوف علومهم؛ فبقيت علومهم
خالدة تالدة إلى الأبد، وكم من ولي لله كان معهم وبعدهم بكثير، كان لهم تلاميذ
وأوراد، وانقطعت تلك الأوراد وباد المريدون بمرور الأزمان، وأئمة العلم ما زالوا
بعلومهم كأنهم أحياء.." هذا الكلام النفيس من بيان أبي عبد الله محمد الأمين
في كتابه "المجد الطارف والتالد"، يصف مكانة القاضي عياض العلمية، وقدره
الرفيع بين علماء الإسلام، وليس في كلام الشيخ مبالغة أو تزويد؛ فقد حقق القاضي
عياض شهرة واسعة حتى قيل: لولا عياض لما عُرف المغرب، وكأنهم يعنون –في جملة ما
يعنون- أنه أول من لفت نظر علماء المشرق إلى علماء المغرب حتى أواسط القرن السادس
الهجري.
المولد
والنشأة
يعود
نسب القاضي "عياض بن موسى اليحصبي" إلى إحدى قبائل اليمن العربية
القحطانية، وكان أسلافه قد نزلوا مدينة "بسطة" الأندلسية من نواحي
"غرناطة" واستقروا بها، ثم انتقلوا إلى مدينة "فاس" المغربية،
ثم غادرها جده "عمرون" إلى مدينة "سبتة" حوالي سنة (373 هـ =
893م)، واشتهرت أسرته بـ"سبتة"؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وشهدت هذه
المدينة مولد عياض في (15 من شعبان 476هـ = 28 من ديسمبر 1083م)، ونشأ بها وتعلم،
وتتلمذ على شيوخها.
الرحلة في
طلب العلم
رحل
عياض إلى الأندلس سنة (507هـ = 1113م) طلبًا لسماع الحديث وتحقيق الروايات، وطاف
بحواضر الأندلس التي كانت تفخر بشيوخها وأعلامها في الفقه والحديث؛ فنزل قرطبة أول
ما نزل، وأخذ عن شيوخها المعروفين كـ"ابن عتاب"، و"ابن
الحاج"، و"ابن رشد"، و"أبي الحسين بن سراج" وغيرهم، ثم
رحل إلى "مرسية" سنة (508هـ = 1114م)، والتقى بأبي علي الحسين بن محمد
الصدفي، وكان حافظًا متقنًا حجة في عصره، فلازمه، وسمع عليه الصحيحين البخاري
ومسلم، وأجازه بجميع مروياته.
اكتفى
عياض بما حصله في رحلته إلى الأندلس، ولم يلبث أن رحل إلى المشرق مثلما يفعل غيره
من طلاب العلم، وفي هذا إشارة إلى ازدهار الحركة العلمية في الأندلس وظهور عدد
كبير من علمائها في ميادين الثقافة العربية والإسلامية، يناظرون في سعة علمهم
ونبوغهم علماء المشرق المعروفين.
عاد
عياض إلى "سبتة" غزير العلم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار،
والتفَّ حوله طلاب العلم وطلاب الفتوى، وكانت عودته في (7 من جمادى الآخرة 508هـ =
9 من أكتوبر 1114م)، وجلس للتدريس وهو في الثانية والثلاثين من عمره، ثم تقلد منصب
القضاء في "سبتة" سنة (515 هـ = 1121م) وظل في منصبه ستة عشر عامًا، كان
موضع تقدير الناس وإجلالهم له، ثم تولى قضاء "غرناطة" سنة (531هـ =
1136م) وأقام بها مدة، ثم عاد إلى "سبتة" مرة أخرى ليتولى قضاءها سنة
(539هـ = 1144م).
القاضي
عياض محدثًا
كانت
حياة القاضي عياض موزعة بين القضاء والإقراء والتأليف، غير أن الذي أذاع شهرته،
وخلَّد ذكره هو مصنفاته التي بوَّأَتْه مكانة رفيعة بين كبار الأئمة في تاريخ
الإسلام، وحسبك مؤلفاته التي تشهد على سعة العلم وإتقان الحفظ، وجودة الفكر،
والتبحر في فنون مختلفة من العلم.
وكان
القاضي عياض في علم الحديث الفذَّ في الحفظ والرواية والدراية، العارف بطرقه،
الحافظ لرجاله، البصير بحالهم؛ ولكي ينال هذه المكانة المرموقة كان سعيه الحثيث في
سماع الحديث من رجاله المعروفين والرحلة في طلبه، حتى تحقق له من علو الإسناد
والضبط والإتقان ما لم يتحقق إلا للجهابذة من المحدِّثين، وكان منهج عياض في
الرواية يقوم على التحقيق والتدقيق وتوثيق المتن، وهو يعد النقل والرواية الأصل في
إثبات صحة الحديث، وتشدد في قضية النقد لمتن الحديث ولفظه، وتأويل لفظه أو روايته
بالمعنى، وما يجره ذلك من أبواب الخلاف.
وطالب
المحدث أن ينقل الحديث مثلما سمعه ورواه، وأنه إذا انتقد ما سمعه فإنه يجب عليه
إيراد ما سمعه مع التنبيه على ما فيه؛ أي أنه يروي الحديث كما سمعه مع بيان ما
يَعِنُّ له من تصويب فيه، دون قطع برأي يؤدي إلى الجرأة على الحديث، ويفتح بابًا
للتهجم قد يحمل صاحبه على التعبير والتصرف في الحديث بالرأي.
وألَّف القاضي في شرح الحديث ثلاثة كتب هي:
"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" وهو من أدَلِّ الكتب على سعة ثقافة
عياض في علم الحديث وقدرته على الضبط والفهم، والتنبيه على مواطن الخطأ والوهم
والزلل والتصحيف، وقد ضبط عياض في هذا الكتاب ما التبس أو أشكل من ألفاظ الحديث
الذي
ورد
في الصحيحين وموطأ مالك، وشرح ما غمض في الكتب الثلاثة من ألفاظ، وحرَّر ما وقع
فيه الاختلاف، أو تصرف فيه الرواة بالخطأ والتوهم في السند والمتن، ثم رتَّب هذه
الكلمات التي عرض لها على ترتيب حروف المعجم.
أما
الكتابان الآخران فهما "إكمال المعلم" شرح فيه صحيح مسلم، و"بغية
الرائد لما في حديث أم زرع من الفوائد".
وله
في علم الحديث كتاب عظيم هو " الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع"
... فقيهًا
درس
القاضي عياض على شيوخه بـ"سبتة" المدونة لابن سحنون، وهو مؤلَّف يدور
عليه الفقه المالكي، ويُعَدُّ مرجعَهُ الأول بلا منازع، وقد كُتبت عليه الشروح
والمختصرات والحواشي، غير أن المدونة لم تكن حسنة التبويب؛ حيث تتداخل فيها
المسائل المختلفة في الباب الواحد، وتعاني من عدم إحكام وضع الآثار مع المسائل
الفقهية.
وقد
لاحظ القاضي عياض هذا عند دراسته "المدونة" على أكثر من شيخ؛ فنهض إلى
عمل عظيم، فحرَّر رواياتها، وسمى رواتها، وشرح غامضها، وضبط ألفاظها، وذلك في
كتابه "التنبيهات المستنبَطة على الكتب المدونة والمختلطة" ولا شكَّ أن
قيام القاضي عياض بمثل هذا العمل يُعد خطوة مهمة في سبيل ضبط المذهب المالكي
وازدهاره.
القاضي
عياض مؤرخًا
ودخل
القاضي ميدان التاريخ من باب الفقه والحديث، فألَّف كتابه المعروف " تدريب
المدارك"، وهو يُعَدُّ أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال المذهب المالكي ورواة
"الموطأ" وعلمائه، وقد استهلَّ الكتاب ببيان فضل علم أهل المدينة، ودافع
عن نظرية المالكية في الأخذ بعمل أهل المدينة، باعتباره عندهم من أصول التشريع،
وحاول ترجيح مذهبه على سائر المذاهب، ثم شرع في الترجمة للإمام مالك وأصحابه
وتلاميذه، وهو يعتمد في كتابه على نظام الطبقات دون اعتبار للترتيب الألفبائي؛ حيث
أورد بعد ترجمة الإمام مالك ترجمة أصحابه، ثم أتباعهم طبقة طبقة حتى وصل إلى شيوخه
الذين عاصرهم وتلقى على أيديهم.
والتزم
في طبقاته التوزيع الجغرافي لمن يترجم لهم، وخصص لكل بلد عنوانًا يدرج تحته علماءه
من المالكية؛ فخصص للمدينة ومصر والشام والعراق عناوين خاصة بها، وإن كان ملتزما
بنظام الطبقات.
القا ضي عياض
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة المؤلف
مقام
عياض مثل مقام البخاري والأئمة الأربعة؛ فهم حملة الشريعة وعلومها التي يبثُّونها
في صدور الرجال بالتلقين والتأليف، ذَبُّوا عن الشريعة بسيوف علومهم؛ فبقيت علومهم
خالدة تالدة إلى الأبد، وكم من ولي لله كان معهم وبعدهم بكثير، كان لهم تلاميذ
وأوراد، وانقطعت تلك الأوراد وباد المريدون بمرور الأزمان، وأئمة العلم ما زالوا
بعلومهم كأنهم أحياء.." هذا الكلام النفيس من بيان أبي عبد الله محمد الأمين
في كتابه "المجد الطارف والتالد"، يصف مكانة القاضي عياض العلمية، وقدره
الرفيع بين علماء الإسلام، وليس في كلام الشيخ مبالغة أو تزويد؛ فقد حقق القاضي
عياض شهرة واسعة حتى قيل: لولا عياض لما عُرف المغرب، وكأنهم يعنون –في جملة ما
يعنون- أنه أول من لفت نظر علماء المشرق إلى علماء المغرب حتى أواسط القرن السادس
الهجري.
المولد
والنشأة
يعود
نسب القاضي "عياض بن موسى اليحصبي" إلى إحدى قبائل اليمن العربية
القحطانية، وكان أسلافه قد نزلوا مدينة "بسطة" الأندلسية من نواحي
"غرناطة" واستقروا بها، ثم انتقلوا إلى مدينة "فاس" المغربية،
ثم غادرها جده "عمرون" إلى مدينة "سبتة" حوالي سنة (373 هـ =
893م)، واشتهرت أسرته بـ"سبتة"؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وشهدت هذه
المدينة مولد عياض في (15 من شعبان 476هـ = 28 من ديسمبر 1083م)، ونشأ بها وتعلم،
وتتلمذ على شيوخها.
الرحلة في
طلب العلم
رحل
عياض إلى الأندلس سنة (507هـ = 1113م) طلبًا لسماع الحديث وتحقيق الروايات، وطاف
بحواضر الأندلس التي كانت تفخر بشيوخها وأعلامها في الفقه والحديث؛ فنزل قرطبة أول
ما نزل، وأخذ عن شيوخها المعروفين كـ"ابن عتاب"، و"ابن
الحاج"، و"ابن رشد"، و"أبي الحسين بن سراج" وغيرهم، ثم
رحل إلى "مرسية" سنة (508هـ = 1114م)، والتقى بأبي علي الحسين بن محمد
الصدفي، وكان حافظًا متقنًا حجة في عصره، فلازمه، وسمع عليه الصحيحين البخاري
ومسلم، وأجازه بجميع مروياته.
اكتفى
عياض بما حصله في رحلته إلى الأندلس، ولم يلبث أن رحل إلى المشرق مثلما يفعل غيره
من طلاب العلم، وفي هذا إشارة إلى ازدهار الحركة العلمية في الأندلس وظهور عدد
كبير من علمائها في ميادين الثقافة العربية والإسلامية، يناظرون في سعة علمهم
ونبوغهم علماء المشرق المعروفين.
عاد
عياض إلى "سبتة" غزير العلم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار،
والتفَّ حوله طلاب العلم وطلاب الفتوى، وكانت عودته في (7 من جمادى الآخرة 508هـ =
9 من أكتوبر 1114م)، وجلس للتدريس وهو في الثانية والثلاثين من عمره، ثم تقلد منصب
القضاء في "سبتة" سنة (515 هـ = 1121م) وظل في منصبه ستة عشر عامًا، كان
موضع تقدير الناس وإجلالهم له، ثم تولى قضاء "غرناطة" سنة (531هـ =
1136م) وأقام بها مدة، ثم عاد إلى "سبتة" مرة أخرى ليتولى قضاءها سنة
(539هـ = 1144م).
القاضي
عياض محدثًا
كانت
حياة القاضي عياض موزعة بين القضاء والإقراء والتأليف، غير أن الذي أذاع شهرته،
وخلَّد ذكره هو مصنفاته التي بوَّأَتْه مكانة رفيعة بين كبار الأئمة في تاريخ
الإسلام، وحسبك مؤلفاته التي تشهد على سعة العلم وإتقان الحفظ، وجودة الفكر،
والتبحر في فنون مختلفة من العلم.
وكان
القاضي عياض في علم الحديث الفذَّ في الحفظ والرواية والدراية، العارف بطرقه،
الحافظ لرجاله، البصير بحالهم؛ ولكي ينال هذه المكانة المرموقة كان سعيه الحثيث في
سماع الحديث من رجاله المعروفين والرحلة في طلبه، حتى تحقق له من علو الإسناد
والضبط والإتقان ما لم يتحقق إلا للجهابذة من المحدِّثين، وكان منهج عياض في
الرواية يقوم على التحقيق والتدقيق وتوثيق المتن، وهو يعد النقل والرواية الأصل في
إثبات صحة الحديث، وتشدد في قضية النقد لمتن الحديث ولفظه، وتأويل لفظه أو روايته
بالمعنى، وما يجره ذلك من أبواب الخلاف.
وطالب
المحدث أن ينقل الحديث مثلما سمعه ورواه، وأنه إذا انتقد ما سمعه فإنه يجب عليه
إيراد ما سمعه مع التنبيه على ما فيه؛ أي أنه يروي الحديث كما سمعه مع بيان ما
يَعِنُّ له من تصويب فيه، دون قطع برأي يؤدي إلى الجرأة على الحديث، ويفتح بابًا
للتهجم قد يحمل صاحبه على التعبير والتصرف في الحديث بالرأي.
وألَّف القاضي في شرح الحديث ثلاثة كتب هي:
"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" وهو من أدَلِّ الكتب على سعة ثقافة
عياض في علم الحديث وقدرته على الضبط والفهم، والتنبيه على مواطن الخطأ والوهم
والزلل والتصحيف، وقد ضبط عياض في هذا الكتاب ما التبس أو أشكل من ألفاظ الحديث
الذي
ورد
في الصحيحين وموطأ مالك، وشرح ما غمض في الكتب الثلاثة من ألفاظ، وحرَّر ما وقع
فيه الاختلاف، أو تصرف فيه الرواة بالخطأ والتوهم في السند والمتن، ثم رتَّب هذه
الكلمات التي عرض لها على ترتيب حروف المعجم.
أما
الكتابان الآخران فهما "إكمال المعلم" شرح فيه صحيح مسلم، و"بغية
الرائد لما في حديث أم زرع من الفوائد".
وله
في علم الحديث كتاب عظيم هو " الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع"
... فقيهًا
درس
القاضي عياض على شيوخه بـ"سبتة" المدونة لابن سحنون، وهو مؤلَّف يدور
عليه الفقه المالكي، ويُعَدُّ مرجعَهُ الأول بلا منازع، وقد كُتبت عليه الشروح
والمختصرات والحواشي، غير أن المدونة لم تكن حسنة التبويب؛ حيث تتداخل فيها
المسائل المختلفة في الباب الواحد، وتعاني من عدم إحكام وضع الآثار مع المسائل
الفقهية.
وقد
لاحظ القاضي عياض هذا عند دراسته "المدونة" على أكثر من شيخ؛ فنهض إلى
عمل عظيم، فحرَّر رواياتها، وسمى رواتها، وشرح غامضها، وضبط ألفاظها، وذلك في
كتابه "التنبيهات المستنبَطة على الكتب المدونة والمختلطة" ولا شكَّ أن
قيام القاضي عياض بمثل هذا العمل يُعد خطوة مهمة في سبيل ضبط المذهب المالكي
وازدهاره.
القاضي
عياض مؤرخًا
ودخل
القاضي ميدان التاريخ من باب الفقه والحديث، فألَّف كتابه المعروف " تدريب
المدارك"، وهو يُعَدُّ أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال المذهب المالكي ورواة
"الموطأ" وعلمائه، وقد استهلَّ الكتاب ببيان فضل علم أهل المدينة، ودافع
عن نظرية المالكية في الأخذ بعمل أهل المدينة، باعتباره عندهم من أصول التشريع،
وحاول ترجيح مذهبه على سائر المذاهب، ثم شرع في الترجمة للإمام مالك وأصحابه
وتلاميذه، وهو يعتمد في كتابه على نظام الطبقات دون اعتبار للترتيب الألفبائي؛ حيث
أورد بعد ترجمة الإمام مالك ترجمة أصحابه، ثم أتباعهم طبقة طبقة حتى وصل إلى شيوخه
الذين عاصرهم وتلقى على أيديهم.
والتزم
في طبقاته التوزيع الجغرافي لمن يترجم لهم، وخصص لكل بلد عنوانًا يدرج تحته علماءه
من المالكية؛ فخصص للمدينة ومصر والشام والعراق عناوين خاصة بها، وإن كان ملتزما
بنظام الطبقات.