الباب
الأول : في ثناء الله تعالى عليه و إظهاره عظيم قدره لديه
اعلم
أن في كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكر المصطفى ، و عد محاسنه ، و
تعظيم أمره ، و تنويه قدره ، اعتمدنا منها على ما ظهر معناه ، و بان فحواه ، و
جمعنا ذلك في عشرة فصول :
الفصل
الأول
فيما جاء من ذلك مجيء المدح و الثناء و تعداد
المحاسن ، كقوله تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم
بالمؤمنين رؤوف رحيم [ سورة التوبة /9 : الآية 128 ] .
قال السمرقندي [ 6 ] : و قرأ بعضهم : من أنفسكم ـ بفتح الفاء . و قراءة الجمهور
بالضم .
قال القاضي الإمام أبو الفضل ـ [ وفقه الله ] أعلم الله تعالى المؤمنين ، أو العرب
، أو أهل مكة ، أو جميع الناس ، على اختلاف المفسرين : من المواجه بهذا الخطاب أنه
بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفونه ، و يتحققون مكانه ، و يعلمونه صدقه و أمانته ،
فلا يتهمونه بالكذب و ترك النصيحة لهم ، لكونه منهم ، و أنه لم تكن في العرب قبيلة
إلا و لها على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولادة أو قرابة ، [ و هو عند ابن
عباس و غيره معنىقوله تعالى : إلا المودة في القربى ] و ك ونه من أشرفهم ، و
أرفعهم ، و أفضلهم ، على قراءة الفتح ، و هذه نهاية المدح ، ثم وصفه بعد بأوصاف
حميدة ، و أثنى عليه بمحامد كثيرة ، من حرصه على هدايتهم و رشدهم و إسلامهم ، و
شدة ما يعنتهم و يضر بهم في دنياهم و أخراهم ، و عزته و رأفته و رحمته بمؤمنهم .
قال بعضهم : أعطاه اسمين من أسمائه : رؤوف ، رحيم .
و مثله في الآية الأخرى : قوله تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم
رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من
قبل لفي ضلال مبين [ سورة آل عمران /3 ، الأية : 164]
و في الأية الأخرى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم
ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [ سورة الجمعة /62 : الأية
2 ] .
و قوله تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم
الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون [ سورة البقرة /2 : الآية 151 ] .
و روي عن علي بن أبي طالب ، عنه صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : من أنفسكم
قال : نسباً و صهراً و حسباً ، ليس فى آبائي من لدن آدم سفاح ، كلنا نكاح .
[ قال ابن الكلبي : كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن
سفاحاً و لا شيئاً مما كان عليه الجاهلية .
و عن ابن عباس رضي الله عنه ـ في قوله تعالى : وتقلبك في الساجدين ـ قال : من نبي
إلى نبي ، حتى أخرجك نبياً ] .
و قال جعفر ابن محمد : علم الله عجز خلقه عن طاعته ، فعرفهم ذلك ، لكي يعلموا أنهم
لا ينالون الصفو من خدمته ، فأقام بينهم و بينه مخلوقاً من جنسهم في الصورة ، و
ألبسه من نعمته [ 7 ] الرأفة و الرحمة ، و أخرجه إلى الخلق سفيراً صادقاً ، و جعل
طاعته طاعته ، و موافقته ، فقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله .
و قال الله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ سورة الأنبياء / 21 : الآية
107 ] .
قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بزينة الرحمة ،
فكان كونه رحمة ، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق ، فمن أصابه شيء من رحمته
فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، و الواصل فيهما إلى كل محبوب ، ألا ترى أن
الله يقول : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، فكانت حياته رحمة ، و مماته رحمة ،
كما قال عليه السلام : حياتي خير لكم و موتي خير لكم و كما قال عليه الصلاة و
السلام : إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً و سلفاً . و
قال السمر قندي : رحمة للعالمين : يعني للجن و الإنس .
و قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة بالهداية ، و رحمة للمنافق بالأمان من القتل ،
و رحمة للكافر بتأخير العذاب .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو رحمة للمؤمنين و للكافرين ، إذ عوفوا مما أصاب
غيرهم من الأمم المكذبة .
و حكى أن النبى صلى الله عليه و سلم قال لجبريل عليه السلام : هل أصابك من هذه
الرحمة شىء ؟ قال : نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله عز وجل علي بقوله :
ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين [ سورة التكوير / 81 : الأية 20 ـ 21 ] .
و روي عن جعفر بن محمد الصادق ـ فى قوله تعالى : فسلام لك من أصحاب اليمين . أي بك
، إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال الله تعالى : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح
في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله
الأمثال للناس والله بكل شيء عليم [ سورة النور / 24 : الأية 35 ] .
قال كعب ، و ابن جبير : المراد بالنور الثاني هنا محمد عليه السلام [7 ] . و قوله
تعالى مثل نوره أي نور محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال سهل بن عبد الله : المعنى : الله هادي أهل السموات و الأرض ، ثم قال : مثل
نور محمد إذ كان مستودعاً في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا ، و أراد بالمصباح قلبه ، و
بالزجاجة صدره ، أي كأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان و الحكمة يوقد من شجرة
مباركة أي من نور إبراهيم . و ضرب المثل بالشجرة المباركة .
و قوله : يكاد زيتها يضيء أي تكاد نبوة محمد صلى الله عليه و سلم تبين للناس قبل
كلامه كهذا الزيت .
و قيل في هذه الآية غير هذا . و الله أعلم .
و قد سماه الله تعالى في القرآن في غير هذا الموضع نوراً و سراجاً منيراً ، فقال
تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين [ سورة المائدة / 5 : الآية 15 ] .
و قال تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا
منيرا [ سورة الأحزاب / 33 : الأية 45 ـ 46 ] .
و من ه ذا قوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك *
ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت فانصب * وإلى
ربك فارغب [ سورة الشرح / 94 ] .
شرح : وسع . و المراد بالصدر هنا : القلب . قال ابن عباس : شرحه بالإسلام .
و قال سهل : بنور الرسالة .
و قال الحسن : ملأه حكماً و علماً .
و قيل : معناه ألم نطهر قلبك حتى لا يؤذيك الوسواس . و وضعنا عنك وزرك الذي أنقض
ظهرك :
قيل : ما سلف من ذنبك ـ يعني قبل النبوة .
و قيل : أراد ثقل أيام الجاهلية .
و قيل : أراد ما أثقل ظهره من الرسالة حتى بلغها . حكاه الماوردي و السلمي .
و قيل : عصمناك ، و لولا ذلك لأثقلت الذنوب ظهرك ، حكاه السمرقندي .
ورفعنا لك ذكرك قال يحيى بن آدم : بالنبوة . و قيل : إذا ذكرت ذكرت معي قول : لا
إله إلا الله ، محمد رسول الله . و قيل : في الأذان [ 8 ] .
قال القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه وسلم على
عظيم نعمه لديه ، و شريف منزلته عنده ، و كرامته عليه ، بأن شرح قلبه للإيمان و
الهداية ، و وسعه لوعى العلم ، و حمل الحكمة ، و رفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه ،
و بغضه لسيرها ، و ما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله ، و حط عنه عهدة أعباء
الرسالة و النبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم ، و تنويهه بعظيم مكانه ، و جليل
رتبته ، و رفعه و ذكره ، و قرانه مع اسمه اسمه .
قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب و لا متشهد و لا صاحب صلاة
إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله .
و روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه السلام
، فقال : إن ربي و ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله و رسوله أعلم . قال
: إذا ذكرت ذكرت معي .
قال ابن عطاء : جعلت تمام الإيمان بذكري معك .
و قال أيضاً : جعلتك ذكراً من ذكرى ، فمن ذكرك ذكرني .
و قال جعفر بن محمد الصادق : لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية
.
و أشار بعضهم في ذلك إلى الشفاعة .
و من ذكره معه تعالى أن قرن طاعته بطاعته و اسمه باسمه ، فقال تعالى : أطيعوا الله
والرسول . و آمنوا بالله ورسوله ، فجمع بينهما بواو العطف المشركة .
و لا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه السلام .
حدثنا الشيخ أبو علي الحسين بن محمد الجياني الحافظ فيما أجازنيه [ 8 ] ، و قرأته
على الثقة عنه ، قال : حدثنا أبو عمر النمري ، قال : حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن
، حدثنا أبو بكر بن داسة : حدثنا أبو داود السجزي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ،
حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن عبد الله بن يسار ، عن حذيفة رضي الله عنه ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يقولن أحدكم ما شاء الله و شاء فلان ، و لكن ما شاء
الله ثم شاء فلان .
قال الخطابي : أرشدهم صلى الله عليه و سلم إلى الأدب في تقديم مشيئة الله تعالى
على مشيئة من سواه ، و اختارها بثم التي هي للنسق و التراخي ، بخلاف الواو التي هي
للإشتراك .
و مثله الحديث الآخر : إن خطيباً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : من
يطع الله و رسوله فقد رشد ، و من يعصهما . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : بئس
خطيب القوم أنت ! قم . أو قال : اذهب . قال أبو سليمان : كره منه الجمع بين
الاسمين بحرف الكناية لما فيه من التسوية .