في
وصفه تعالى له بالشهادة و ما يتعلق بها من الثناء و الكرامة
قال
الله تعالى : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله
بإذنه وسراجا منيرا ( سورة الأحزاب /33 : الآية 45 ـ 46 ) .
جمع الله تعالى في هذه الآية ضروباً من رتب الأثرة ، و جملة أوصاف من المدحة فجعله
شاهداً على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة ، و هي من خصائصه صلى الله عليه و سلم ، و
مبشراً لأهل طاعته ، و نذيراً لأهل معصيته ، و داعياً إلى توحيده و عبادته ، و
سراجاً منيراً يهتدى به للحق .
حدثنا الشيخ أبو محمد بن عتاب رحمه الله ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا
أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ،
حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثنا هلال ، عن عطاء ابن يسار
، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله
عليه و سلم قال : أجل ، و الله ، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا
أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، و حرزاً للأميين ، أنت عبدي و رسولي
، سميتك المتوكل ، ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق ، و لا يدفع بالسيئة
السيئة ، و لكن يعفو و يغفر ، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن
يقولوا : لاإله إلا الله ، و يفتح به أعينا عمياً، و آذاناً صماً ، و قلوباً
غلفاً.
و ذكر مثله عن عبد الله بن سلام [ 10 ] و كعب الأحبار ، و في بعض طرقه ، عن ابن
إسحاق : و لا صخب في الأسواق ، و لا متزين بالفحش ، و لا قوال للخنا ، أسدده لكل
جميل ، و أهب له كل خلق كريم ، و أجعل السكينة لباسه ، و البر شعاره ، و التقوى
ضميره ، و الحكمة معقوله ، و الصدق و الوفاء طبيعته ، و العفو و المعروف خلقه ، و
العدل سيرته ، و الحق شريعته ، و الهدى إمامه ، و الإسلا م ملته ، و أحمد اسمه ،
أهدي به بعد الضلالة ، و أعلم به بعد الجهالة ، و أرفع به بعد الخمالة ، و أسمي به
بعد النكرة ، و أكثر به بعد القلة ، و أغني به بعد العلة ، و أجمع به بعد الفرقة ،
و أولف به بين قلوب مختلفة ، و أهواء متشتتة ، و أمم متفرقة ، و أجعل أمته خير أمة
أخرجت للناس . و في حديث آخر : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفته في
التوراة : عبدي أحمد المختار ، مولده بمكة ، و مهاج ره بالمدينة ، أو قال : طيبة
أمته الحمادون لله على كل حال . و قال تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي
يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل
لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين
آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل يا
أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو
يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه
لعلكم تهتدون [سورة الأعراف /7 : الآية 157ـ158 ] .
و قد قال تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من
حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله
يحب المتوكلين [ سورة آل عمران / 3 : الآية 159 ] .
قال السمرقندي : ذكرهم الله منته أنه جعل رسوله رحيماً بالمؤمنين ، رؤوفاً لين
الجانب ، و لو كان فظاً خشناً في القول لتفرقوا من حوله ، و لكن جعله الله تعالى
سمحاً ، سهلاً طلقاً براً لطيفاً .
هكذا قاله الضحاك .
و قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيدا [ سورة البقرة / 2 : الآية 143 ] .
قال أبو الحسن القابسي : أبان الله تعالى فضل نبينا صلى الله عليه و سلم ، و فضل
أمته بهذه الآية ، و في قوله في الآية [ 10 ] الأخرى : وفي هذا ليكون الرسول شهيدا
عليكم وتكونوا شهداء على الناس [ سورة الحج / 22 : الآية 78 ] .
و كذلك قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [
سورة النساء / 4 : الآية 41 ] .
قوله تعالى : وسطاً : أي عدلاً خياراً .
و معنى هذه الآية : و كما هديناكم فكذلك خصصناكم و فضلناكم بأن جعلناكم أمة خياراً
عدولاً ، لتشهدوا للأنبياء عليهم السلام على أممهم ، و يشهد لكم الرسول بالصدق .
و قيل : إن الله جل جلاله إذا سأل الأنبياء : هل بلغتم . فيقولون : نعم . فتقول
أممهم : ما جاءنا من بشير و لا نذير ، فتشهد أمة محمد صلى الله عليه و سلم للأ
نبياء ، و يزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم .
و قيل : معنى الآية : إنكم حجة على كل من خالفكم ، و الرسول حجة عليكم . حكاه
السمرقندي .
و قال الله تعالى : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم [ سورة يونس / 10 :
الآية 2 ] .
قال قتادة ، و الحسن ، و زيد بن أسلم : قدم صدق : هو محمد صلى الله عليه و سلم ،
يشفع لهم .
و عن الحسن أيضاً : هي مصيبتهم بنبيهم .
و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، هو
شفيع صدق عند ربهم .
و قال سهل بن عبد الله التستري : هي سابقة رحمة أودعها الله في محمد صلى الله عليه
و سلم .
و قال محمد بن علي الترمذي : هو إمام الصادقين و الصديقين ، الشفيع المطاع ، و
السائل المجاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه عنه السلمي .
الفصل
الثالث
فيما
ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة و المبرة
من ذلك قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [
سورة التوبة / 9 : الآية 43 ].
قال أبو محمد مكي : قيل هذا إفتتاح كلام بمنزلة : أصلحك الله ، و أعزك الله .
و قال عون بن عبد الله : أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب .
و حكى السمرقندي عن بعضهم أن معناه : عافاك الله يا سليم القلب : لم أذنت لهم ؟ .
قال : و لو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، لم أذنت لهم لخيف عليه أن ينشق
قلبه من هيبة هذا الكلام ، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه ، ثم
قال له : لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب .
و في هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب .
و من إكرامه إياه و بره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب . قال نفطويه :
ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم معاتب بهذه الآية ، و حاشاه من ذلك ، بل
كان مخيراً فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، و
أنه لا حرج عليه في الأذن لهم .
قال القاضي أبو الفضل : يجب على المسلم المجاهد نفسه ، ا لرائض بزمام الشريعة خلقه
أن يتأدب بأدب القرآن في قوله و فعله ، و معاطاته و محاوراته ، فهو عنصر المعارف
الحقيقية ، و روضة الأداب الدينة و الدنيوية ، و ليتأمل هذه الملاطفة العجيبة في
السؤال من رب الأرباب ، المنعم على الكل ، المستغني عن الجميع ، و يستثر ما فيها
من الفوائد ، و كيف ابتدأ بالإكرام قبل العتب ، و أنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان
ثم ذنب .
و قال تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17
: الآية 74 ] .
قال بعض المتكلمين : عاتب الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بعد [ 11] الزلات ، و
عاتب نبياً عليه السلام قبل وقوعه ، ليكون بذلك أشد انتهاءً و محافظة لشرائط
المحبة ، و هذه غاية العناية .
ثم انظر كيف بدأ بثباته و سلامته قبل ذكر ما عتبه عليه و خيف أن يركن إليه ، ففي
أثناء عتبه براءته ، و في طي تخويفه تأمينه و كرامته .
و مثله قوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون [ سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
قال علي رضي الله عنه : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك و
لكن نكذب ما جئ ت به ، فأنزل الله تعالى : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات
الله يجحدون .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كذبه قومه حزن ، فجاءه جبريل عليه السلام
فقال : ما يحزنك ؟ قال : كذبني قومي ! فقال : إنهم يعلمون أنك صادق ، فأنزل الله
تعالى الآية .
ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ ، من تسليته تعالى له عليه السلام ، و إلطافه به
في القول ، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم ، و أنهم غير مكذبين له ، معترفون بصدقه
قولاً و إعتقاداً ، و قد كانوا يسمونه ـ قبل النبوة ـ الأمين ، فدفع بهذا التقرير
ارتماض نفسه بسمة الكذب ، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين ، فقال تعالى :
ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [ سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
فحاشاه من الوصم ، و طوقهم بالمعاندة بتكذيب الآيات حقيقة الظلم ، إذ الجحد إنما
يكون ممن علم الشيء ثم أنكره ، كقوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما
وعلوا [ سورة النمل / 17 : الآية 14 ] .
ثم عزاه و آنسه بما ذكره عمن قبله ، و وعده النصر بقوله تعالى : ولقد كذبت رسل من
قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك
من نبإ المرسلين [ سورة الأنعام / 6 : الآية 34 ] .
فمن قرأ وإن يكذبوك بالتخفيف ، فمعناه : لا يجدونك كاذباً . و قال الفراء ، و
الكسائي : لا يقولون إنك كاذب .
و قيل : لا يحتجون على كذبك ، و لا يثبتونه .
و من قرأ بالتشديد فمعناه : لا ينسبوك إلى الكذب . و قيل : لا يعتقدون كذبك .
و مما ذكر من خصائصه و بر الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء
بأسمائهم ، فقال تعالى : يا آدم ، يا نوح ، يا موسى ، يا داود ، يا عيسى ، يا
زكريا ، يا يحيى . و لم يخاطب هو إلا : يأيها الرسول ، يأيها النبي ، يأ يها
المزمل ، يأيها المدثر
وصفه تعالى له بالشهادة و ما يتعلق بها من الثناء و الكرامة
قال
الله تعالى : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله
بإذنه وسراجا منيرا ( سورة الأحزاب /33 : الآية 45 ـ 46 ) .
جمع الله تعالى في هذه الآية ضروباً من رتب الأثرة ، و جملة أوصاف من المدحة فجعله
شاهداً على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة ، و هي من خصائصه صلى الله عليه و سلم ، و
مبشراً لأهل طاعته ، و نذيراً لأهل معصيته ، و داعياً إلى توحيده و عبادته ، و
سراجاً منيراً يهتدى به للحق .
حدثنا الشيخ أبو محمد بن عتاب رحمه الله ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا
أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ،
حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثنا هلال ، عن عطاء ابن يسار
، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله
عليه و سلم قال : أجل ، و الله ، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا
أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، و حرزاً للأميين ، أنت عبدي و رسولي
، سميتك المتوكل ، ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق ، و لا يدفع بالسيئة
السيئة ، و لكن يعفو و يغفر ، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن
يقولوا : لاإله إلا الله ، و يفتح به أعينا عمياً، و آذاناً صماً ، و قلوباً
غلفاً.
و ذكر مثله عن عبد الله بن سلام [ 10 ] و كعب الأحبار ، و في بعض طرقه ، عن ابن
إسحاق : و لا صخب في الأسواق ، و لا متزين بالفحش ، و لا قوال للخنا ، أسدده لكل
جميل ، و أهب له كل خلق كريم ، و أجعل السكينة لباسه ، و البر شعاره ، و التقوى
ضميره ، و الحكمة معقوله ، و الصدق و الوفاء طبيعته ، و العفو و المعروف خلقه ، و
العدل سيرته ، و الحق شريعته ، و الهدى إمامه ، و الإسلا م ملته ، و أحمد اسمه ،
أهدي به بعد الضلالة ، و أعلم به بعد الجهالة ، و أرفع به بعد الخمالة ، و أسمي به
بعد النكرة ، و أكثر به بعد القلة ، و أغني به بعد العلة ، و أجمع به بعد الفرقة ،
و أولف به بين قلوب مختلفة ، و أهواء متشتتة ، و أمم متفرقة ، و أجعل أمته خير أمة
أخرجت للناس . و في حديث آخر : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفته في
التوراة : عبدي أحمد المختار ، مولده بمكة ، و مهاج ره بالمدينة ، أو قال : طيبة
أمته الحمادون لله على كل حال . و قال تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي
يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل
لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين
آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل يا
أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو
يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه
لعلكم تهتدون [سورة الأعراف /7 : الآية 157ـ158 ] .
و قد قال تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من
حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله
يحب المتوكلين [ سورة آل عمران / 3 : الآية 159 ] .
قال السمرقندي : ذكرهم الله منته أنه جعل رسوله رحيماً بالمؤمنين ، رؤوفاً لين
الجانب ، و لو كان فظاً خشناً في القول لتفرقوا من حوله ، و لكن جعله الله تعالى
سمحاً ، سهلاً طلقاً براً لطيفاً .
هكذا قاله الضحاك .
و قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيدا [ سورة البقرة / 2 : الآية 143 ] .
قال أبو الحسن القابسي : أبان الله تعالى فضل نبينا صلى الله عليه و سلم ، و فضل
أمته بهذه الآية ، و في قوله في الآية [ 10 ] الأخرى : وفي هذا ليكون الرسول شهيدا
عليكم وتكونوا شهداء على الناس [ سورة الحج / 22 : الآية 78 ] .
و كذلك قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [
سورة النساء / 4 : الآية 41 ] .
قوله تعالى : وسطاً : أي عدلاً خياراً .
و معنى هذه الآية : و كما هديناكم فكذلك خصصناكم و فضلناكم بأن جعلناكم أمة خياراً
عدولاً ، لتشهدوا للأنبياء عليهم السلام على أممهم ، و يشهد لكم الرسول بالصدق .
و قيل : إن الله جل جلاله إذا سأل الأنبياء : هل بلغتم . فيقولون : نعم . فتقول
أممهم : ما جاءنا من بشير و لا نذير ، فتشهد أمة محمد صلى الله عليه و سلم للأ
نبياء ، و يزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم .
و قيل : معنى الآية : إنكم حجة على كل من خالفكم ، و الرسول حجة عليكم . حكاه
السمرقندي .
و قال الله تعالى : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم [ سورة يونس / 10 :
الآية 2 ] .
قال قتادة ، و الحسن ، و زيد بن أسلم : قدم صدق : هو محمد صلى الله عليه و سلم ،
يشفع لهم .
و عن الحسن أيضاً : هي مصيبتهم بنبيهم .
و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، هو
شفيع صدق عند ربهم .
و قال سهل بن عبد الله التستري : هي سابقة رحمة أودعها الله في محمد صلى الله عليه
و سلم .
و قال محمد بن علي الترمذي : هو إمام الصادقين و الصديقين ، الشفيع المطاع ، و
السائل المجاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه عنه السلمي .
الفصل
الثالث
فيما
ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة و المبرة
من ذلك قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [
سورة التوبة / 9 : الآية 43 ].
قال أبو محمد مكي : قيل هذا إفتتاح كلام بمنزلة : أصلحك الله ، و أعزك الله .
و قال عون بن عبد الله : أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب .
و حكى السمرقندي عن بعضهم أن معناه : عافاك الله يا سليم القلب : لم أذنت لهم ؟ .
قال : و لو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، لم أذنت لهم لخيف عليه أن ينشق
قلبه من هيبة هذا الكلام ، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه ، ثم
قال له : لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب .
و في هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب .
و من إكرامه إياه و بره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب . قال نفطويه :
ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم معاتب بهذه الآية ، و حاشاه من ذلك ، بل
كان مخيراً فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، و
أنه لا حرج عليه في الأذن لهم .
قال القاضي أبو الفضل : يجب على المسلم المجاهد نفسه ، ا لرائض بزمام الشريعة خلقه
أن يتأدب بأدب القرآن في قوله و فعله ، و معاطاته و محاوراته ، فهو عنصر المعارف
الحقيقية ، و روضة الأداب الدينة و الدنيوية ، و ليتأمل هذه الملاطفة العجيبة في
السؤال من رب الأرباب ، المنعم على الكل ، المستغني عن الجميع ، و يستثر ما فيها
من الفوائد ، و كيف ابتدأ بالإكرام قبل العتب ، و أنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان
ثم ذنب .
و قال تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17
: الآية 74 ] .
قال بعض المتكلمين : عاتب الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بعد [ 11] الزلات ، و
عاتب نبياً عليه السلام قبل وقوعه ، ليكون بذلك أشد انتهاءً و محافظة لشرائط
المحبة ، و هذه غاية العناية .
ثم انظر كيف بدأ بثباته و سلامته قبل ذكر ما عتبه عليه و خيف أن يركن إليه ، ففي
أثناء عتبه براءته ، و في طي تخويفه تأمينه و كرامته .
و مثله قوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون [ سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
قال علي رضي الله عنه : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك و
لكن نكذب ما جئ ت به ، فأنزل الله تعالى : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات
الله يجحدون .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كذبه قومه حزن ، فجاءه جبريل عليه السلام
فقال : ما يحزنك ؟ قال : كذبني قومي ! فقال : إنهم يعلمون أنك صادق ، فأنزل الله
تعالى الآية .
ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ ، من تسليته تعالى له عليه السلام ، و إلطافه به
في القول ، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم ، و أنهم غير مكذبين له ، معترفون بصدقه
قولاً و إعتقاداً ، و قد كانوا يسمونه ـ قبل النبوة ـ الأمين ، فدفع بهذا التقرير
ارتماض نفسه بسمة الكذب ، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين ، فقال تعالى :
ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [ سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
فحاشاه من الوصم ، و طوقهم بالمعاندة بتكذيب الآيات حقيقة الظلم ، إذ الجحد إنما
يكون ممن علم الشيء ثم أنكره ، كقوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما
وعلوا [ سورة النمل / 17 : الآية 14 ] .
ثم عزاه و آنسه بما ذكره عمن قبله ، و وعده النصر بقوله تعالى : ولقد كذبت رسل من
قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك
من نبإ المرسلين [ سورة الأنعام / 6 : الآية 34 ] .
فمن قرأ وإن يكذبوك بالتخفيف ، فمعناه : لا يجدونك كاذباً . و قال الفراء ، و
الكسائي : لا يقولون إنك كاذب .
و قيل : لا يحتجون على كذبك ، و لا يثبتونه .
و من قرأ بالتشديد فمعناه : لا ينسبوك إلى الكذب . و قيل : لا يعتقدون كذبك .
و مما ذكر من خصائصه و بر الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء
بأسمائهم ، فقال تعالى : يا آدم ، يا نوح ، يا موسى ، يا داود ، يا عيسى ، يا
زكريا ، يا يحيى . و لم يخاطب هو إلا : يأيها الرسول ، يأيها النبي ، يأ يها
المزمل ، يأيها المدثر