فيما تضمنته سورة الفتح من كراماته صلى الله
عليه و سلم
قال الله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك
الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك
الله نصرا عزيزا * هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع
إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما * ليدخل المؤمنين
والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك
عند الله فوزا عظيما * ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين
بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت
مصيرا * ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما * إنا أرسلناك شاهدا
ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا * إن
الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم [ سورة الفتح / 48 ، الآية
1، 10 ] .
تضمنت هذه الأيات من فضله الثناء عليه و كريم منزلته عند الله تعالى ، و نعمته لديه
ـ ما يقصر الوصف عن الإنتهاء إليه ، فابتدأ جل جلاله ـ بإعلامه بما قضاه له من
القضاء البين بظهور ه ، و غلبته على عدوه ، و علو كلمته و شريعته ، و أنه مغفور له
، غير مؤاخذ بما كان و ما يكون .
قال بعضهم : أراد غفران ما وقع و ما لم يقع ، أي إنك مغفور لك .
و قال مكي : جعل الله المنة سبباً للمغفرة ، و كل من عنده ، لا إله غيره ، [ 18 ]
منةً بعد منة ، و فضلاً بعد فضل .
ثم قال : ويتم نعمته عليك : قيل بخضوع من تكبر عليك .
و قيل : يفتح مكة و الطائف .
و قيل : يرفع ذكرك في الدنيا و ينصرك و يغفر لك ، فأعلمه بتمام نعمته عليه بخضوع
متكبري عدوه له ، و فتح أهم البلاد عليه و أحبها له ، و رفع ذكره ، و هدايته
الصراط المستقيم المبلغ الجنة و السعادة ، و نصره النصر العزيز ، و منته على أمته
المؤمنين بالسكينة و الطمأنينة التي جعلها في قلوبهم ، و بشارتهم بما لهم بعد ، و
فوزهم العظيم ، و العفو عنهم ، و الستر لذنوبهم ، و هلاك عدوه في الدنيا و الآخرة
، و لعنهم و بعدهم من رحمته ، و سوء منقلبهم .
ثم قال : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه
وتسبحوه بكرة وأصيلا [ سورة الفتح /48 ، الآية 8 ، 9 ] .
فعد محاسنه و خصائصه ، من شهادته على أمته لنفسه ، بتبليغه الرسالة لهم .
و قيل : شاهداً لهم بالتوحيد ، و مبشراً لأمته بالثواب . و قيل : بالمغفرة
. و منذراً عدوه بالعذاب .
و قيل : محذراً من الضلالات ليؤمنوا بالله ثم به صلى الله عليه و سلم من سبقت له
من الله الحسنى . و يعزروه ، و يجلونه . و قيل : ينصرونه . و قيل : يبالغون في
تعظيمه . و يوقروه ، أي يعظموه .
و قرأه بعضهم : تعززوه ـ بزاءين : من العز ، و الأكثر و الأظهر أن هذا في حق محمد
صلى الله عليه و سلم .
ثم قال : وتسبحوه ، فهذا راجع إلى الله تعالى .
قال ابن عطاء جمع للنبي صلى الله عليه و سلم في هذه السور نعم مختلفة ، من الفتح
المبين ، و هو من أعلام الإجابة . و المغفرة ، و هي من أعلام المحبة ، و تمام
النعمة ، و هي من أعلام الإختصاص . و الهداية ، و هي من أعلام الولاية ، فالمغفرة
تبرئة من العيوب ، و تمام النعمة إبلاغ الدرجة الكاملة ، و الهداية و هي الدعوة
إلىالمشاهدة .
و قال جعفر بن محمد : من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه ، و أقسم بحياته ، و نسخ
به شرائع غيره ، و عرج به إلى المحل الأعلى ، و حفظه في المعراج حتى ما زاغ البصر
و ما طغى ، و بعثه إلى الأحمر و ا لأسود ، و أحل له و لأمته الغنائم ، و جعله
شفيعاً مشفعاً ، و سيد ولد آدم ، و قرن ذكره بذكره ، و رضاه برضاه ، و جعله أحد
ركني التوحيد .
ثم قال : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ـ يعني بيعة الرضوان ، أي إنما
يبايعون الله ببيعتهم إياك .
يد الله فوق أيديهم ، يريد عند البيعة . قيل : قوة الله ، و قيل : ثوابه . و قيل :
منته . وقيل : عقده ، و هذه استعارة ، و تجنيس في الكلام ، و تأكيد لعقد بيعتهم
إياه . و عظم شأن المبايع صلى الله عليه و سلم .
و قد يكون من هذا قوله تعالى : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن
الله رمى ، و إن كان الأول في باب المجاز ، و هذا في باب الحقيقة ، لأن القاتل و
الرامي بالحقيقة هو الله ، و هو خالق فعله و رميه ، و قدرته عليه و مسببه ، و لأنه
ليس في قدرة البشر توصيل تلك الرمية حيث وصلت ، حتى لم يبق منهم من لم تملأ عينيه
، و كذلك قتل الملائكة لهم حقيقة .
و قد قيل في هذه الآية الأخرى إنها على المجاز العربي ، و مقابلة اللفظ و مناسبته
، أي ما قتلتموهم ، و ما رميتهم أنت إذ رميت وجوههم بالحصباء و التراب ، و لكن
الله رمى قلوبهم بالجزع ، أي إن [ 19 ] منفعة الرمي كانت من فعل الله ، فهو القاتل
و الرامي بالمعنى و أنت بالاسم .