فيما
تدعو إليه ضرورة الحياة إليه
على ثلاثة ضروب
الضرب
الأول
ما التمدح و الكمال بقلته اتفاقاً
[
27 ] و أما ما تدعو ضرورة الحياة إليه مما فصلناه فعلى ثلاثة ضروب : ضرب الفضل في
قلته ، و ضرب الفضل في كثرته ، و ضرب تختلف الأحوال فيه .
فأما ما التمدح و الكمل بقلته اتفاقاً ، و على كل حال ، عادة و شريعة ، كالغذاء و
النوم ، و لم تزل العرب و الحكماء تتمادح بقلتهما ، و تذم بكثرتهما ، لأن كثرة
الأكل و الشرب دليل على النهم و الحرص و الشره ، و غلبة الشهوة مسبب لمضارالدنيا و
الآخرة ، جالب لأدواء الجسد و خثار النفس ، و امتلاء الدماغ ، و قلته دليل على
القناعة ، و ملك النفس ، و قمع الشهوة مسبب للصحة ، و صفاء الخاطر ، و حدة الذهن ،
كما أن كثرة النوم دليل على الفسولة و الضعف ، و عدم الذكاء و الفطنة ، مسبب للكسل
، و عادة العجز ، و تضييع العمر في غير نفع ، و قساوة القلب و غفلته و موته .
و الشاهد على هذا ما يعلم ضرورة ، و يوجد مشاهدة ، و ينقل متوتراً من كلام الأمم
المتقدمة ، و الحكماء السابقين ، و أشعار العرب و أخبارها ، و صحيح الحديث ، و آثار
من سلف و خلف ، مما لا يحتاج إلى الإستشهاد عليه اختصا راً و اقتصاراً على اشتهار
العلم به .
و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أخذ من هذين الفنين بالأقل .
هذا ما لا يدفع من سيرته ، و هو الذي أمر به ، و حض عليه ، لاسيما بارتباط أحدهما
بالآخر .
حدثنا أبو علي الصدفي الحافظ بقراءتي عليه ، حدثنا أبو الفضل الأصبهاني ، حدثنا
أبو نعيم الحافظ ، حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أبو بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله
بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح أن يحيى بن جابر حدثه عن المقدام بن معد يكرب أن
رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه ، حسب ابن
آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، و ثلث لشرابه ، و ثلث لنفسه
.
و لأن كثرة النوم من كثرة الأكل و الشرب .
قال سفيان الثوري : بقلة الطعام يملك سهر الليل .
و قال بعض السلف : لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً ، فترقدوا كثيراً ، فتخسروا
كثيراً .
و قد روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان أحب الطعام إليه ما كان على ضعف ، أي
كثرة الأيدي . و عن عا ئشة رضي الله عنها : لم يمتلىء جوف النبي صلى الله عليه و
سلم شبعاً قط ، و أنه كان في أهله لا يسألهم طعاماً و لا يتشهاه ، إن أطعموه أكل ،
و ما أطعموه قبل ، و ما سقوه شرب .
و لا يعترض على هذا بحديث بريرة ، و قوله : ألم أر البرمة فيها لحم إذ لعل سبب
سؤاله ظنه صلى الله عليه و سلم اعتقاده أنه لا يحل له ، فأراد بيان سنته ، إذ رآهم
لم يقدموه إليه ، مع علمه أنهم لا يستأثرون عليه به ، فصدق عليهم ظنه ، و بين لهم
ما جهلوه من أمره بقوله : هو لها صدقة و لنا هدية
و في حكمه لقمان : يابني ، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة ، و خرست الحكمة ، و
قعدت العضاء عن العبادة .
و قال سحنون : لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع .
و في صحيح الحديث قوله صلى الله عليه و سلم : أما أنا فلا آكل متكئاً .
و الإتكاء : هو التمكن للأكل ، و التقعدد في الجلوس له كالمتربع ، و شبهه من تمكن
الجلسات التي يعتمد عليها الجالس على ماتحته [ 28 ] ، و الجالس على هذه الهيئة
يستدعي الأكل و يستكثر منه .
و النبي صلى الله عليه و سلم إنما كان جلوسه للأكل جلوس المستوفز مقعياً ، و يقول
: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، و أجلس كما يجلس العبد .
و ليس معنى الحدث في الإتكاء الميل على شق عند المحققين .
و كذلك نومه صلى الله عليه و سلم كان قليلاً ، شهدت بذلك الآثارالصحيحة ، و مع ذلك
فقد قال : إن عيني تنامان و لا ينام قلبي .
وكان نومه على جانبه الأيمن استظهاراً على قلة النوم ، لأنه على جانب الأيسر أهنأ
، لهدو القلب و ما يتعلق به من الأعضاء الباطنية حينئذ ، لميلها إلى الجانب الأيسر
، فيستدعي ذلك الإستثقال فيه و الطول .
و إذا نام النائم على الأيمن تعلق القلب و قلق ، فأسرع الإفاقة و لم يغمره
الإستغراق .