الضرب
الثاني : ما يتفق على المدح بكثرته
و
الضرب الثاني ما يتفق المدح بكثرته ، و الفخر بوفوره ، كالنكاح و الجاه : أما
النكاح فمتفق فيه شرعاً و عادة ، فإنه دليل الكمال ، و صحة الذكورية ، و لم يزل
التفاخر بكثرته عادة معروفة ، و التمادح به سيرة ماضية .
و أما في الشرع فسنة مأثورة ، و قد قال ابن عباس : أفضل هذه الأمة أكثرها نساء
يشير إليه صلى الله عليه و سلم .
و قد قال عليه السلام : تناكحوا تناسلوا ، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة .
و نهى عن التبتل مع ما فيه من قمع الشهوة ، و غض البصر اللذين نبه عليهما صلى الله
عليه و سلم بقوله : من كان ذا طول فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، و أحصن للفرج حتى لم
يره العلماء مما يقدح في الز هد .
قال سهل بن عبد الله : قد حببن إلى سيد المرسلين ، فكيف يزهد فيهن ؟ و نحوه لابن
عيينه .
و قد كان زهاد الصحابة كثيري الزوجات و السراري ، كثيري النكاح .
و حكي في ذلك على علي ، و الحسن ، و ابن عمر ، و غيرهم غير شيء .
و قد كره غير و احد أن يلقى الله عزباً .
فإن قلت : كيف يكون النكاح و كثرته من الفضائل ، و هذا يحيى بن زكريا عليه السلام
قد أثنى ال له تعالى عليه أنه كان حصوراً ، فكيف يثني الله بالعجز عما تعده فضيلة
؟ .
و هذا عيسى عليه السلام تبتل عنه النساء ، و لو كان كما قررته لنكح ؟
فاعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى بأنه حصور ليس كما قال بعضهم :
إنه كان هيوباً ، أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين و نقاد العلماء ،
و قالوا : هذه تقيصة و عيب ، و لا تليق بالأنبياء .
و إنما معناه أنه معصوم من الذنوب ، أي لا تأتيها ، كأنه حصر عنها . و قيل :
مانعاً نفسه من الشهوات .
و قيل : ليست له شهرة في النساء .
فقد بان ذلك من هذا أن عدم القدر على النكاح نقص ، و إنما الفضل في كونها موجودة ،
ثم قمعها ، إما بمجاهدة ، كعيسى عليه السلام ، أو بكفاية من الله تعالى ، كيحيى
عليه السلام ـ فضيلة زائدة لكونها شاغلة في كثير من الأوقات حاطة إلى الدنيا . ثم
هي في حق من أقدر عليها و ملكها و قام بالواجب فيها ، و لم تشغله عن ربه ـ درجة
عالياً ، و هي درجة نبينا صلى الله عليه و سلم الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه
، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن ، و قيامه بحقوقهن ، و اكتسابه لهن ، و هدايته إياهن
، بل صرح أنها ليست من حظوظ [29] دنياه هو ، و إن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال :
حبب إلي من دنياكم . فدل على أن حبه لما ذكر من النساء و الطيب اللذين هما من أمور
دنيا غيره ، و استعماله لذلك ليس لدنياه ، بل لآخرته ، للفوائد الذي ذكرناها في
التزويج ، و للقاءالملائكة في الطيب ، و لأنه أيضاً مما يحض على الجماع ، و يعين
عليه ، و يحرك أسبابه .
و كان حبه لهاتين الخصلتين لأجل غيره ، و قمع شهوته ، و كان حبه الحقيقي المختص
بذاته في مشاهدته جبروت مولاه و مناجاته ، و لذلك ميز بين الحبين ، و فصل بين
الحالين ، فقال : و جعلت قرة عيني في الصلاة ، فقد ساوى يحيى و عيسى في كفاية
فتنتهن ، و زاد فضيلة بالقيام بهن .
و كان صلى الله عليه و سلم ممن أقدر على القوة في هذا ، و أعطي الكثير منه ، و
لهذا أبيح له من عدد الحرائر ما لم يبح لغيره .
و قد روينا عن أنس أنه صلى الله عليه و سلم كان يدور على نسائه في الساعة من الليل
و النهار ، و هن إحدى عشرة .
و عن طاوس : أعطي عليه السلام قوة أربعين رجلاً في الجماع .
و مثله عن صفوان بن سليم .
و قالت سلمى مولاته : طاف النبي صلى الله عليه و سلم ليلة على نسائه التسع ، و
تطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخر ى ، و قال : هذا أطيب و أطهر .
قال أنس : و كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين رجلاً . خرجه النسائي ، و روي نحوه عن
أبي رافع .
و قد قال سليمان ـ عليه السلام : [ لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع و تسعين ]
و أنه فعل ذلك .
قال ابن عباس : كان في ظهر سليمان ماء مائة رجل أو تسع و تسعين ، و كانت له ثلاثمائة
امرأة و ثلاثمائة سرية .
و حكى النقاش و غيره سبعمائة امرأة و ثلاثمائة سرية .
و قد كان لداود عليه السلام على زهده و أكله من عمل يده تسع و تسعون امرأة ، و تمت
بزوج أوريا مائة .
و قد نبه على ذلك في الكتاب العزيز بقوله تعالى : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة [
سورة ص / 38 ، الآية : 23 ] .
و في حديث أنس عنه ، عليه السلام : فضلت على الناس بأربع : بالسخاء ، و الشجاعة ،
و كثرة الجماع ، و قوة البطش .
و أما الجاه فمحمود عند العقلاء عادة و بقدر جاهه عظمه في القلوب .
و قد قال الله تعالى في صفة عيسى عليه السلام : وجيها في الدنيا والآخرة ، لكن
آفاته كثيرة ، فهو مضر لبعض الناس لعقبى الأخرة ، فلذلك ذمه من ذمه ، و مدح ضده .
و ورد في الشرع مدح الخمول ، و ذم العلو في الأرض .
و كان صلى الله عليه و سلم قد رزق من الحشمة ، و المكانة في القلوب ، و العظمة قبل
النبوة عند الجاهلية و بعدها ، و هم يكذبونه و يؤذون أصحابه ، و يقصدون أذاه في
نفسه خفية حتى إذا واجههم أعظموا أمره ، و قضوا حاجته .
و أخباره في ذلك معروفة سيأتي بعضها .
و قد كان يبهت و يفرق لرؤيته من لم تره ، كما روي عن قيلة أنها لما رأته أرعدت من
الفرق ، فقال : يا مسكينة ، عليك السكينة .
و في حديث أبي مسعود أن رجلاً قام بين يديه فأرعد ، فقال : هون عليك فإني لست بملك
.. لحديث .
فأما عظم قدره بالنبوة ، و شريف منزلته بالرسالة ، و إنافة رتبته بالإصطفاء و
الكرامة في الدنيا فأمر هو مبلغ النهاية ، ثم هو في الآخرة سيد ولد آدم .
و على معنى هذا الفصل نظمنا هذا القسم بأسره .