الضرب
الثالث : ما تختلف الحالات في التمدح به
و
أما الضرب الثالث ، فهو ما تختلف الحالات في التمدح به و التفاخر بسببه ، و
التفضيل [ 30 ] لأجله ، ككثرة المال ـ فصاحبه على الجملة معظم عند العامة ، لإعتقادها
توصله به إلى حاجاته ، و تمكن أغراضه بسببه ، و إلا فليس فضيلة في نفسه ، فمتى كان
المال بهذه الصورة ، و صاحبه منفقاً له في مهمات من اعتراه و أمله ، و تصريفه في
مواضعه مشترياً به المعالي و الثناء الحسن ، و المنزلة في القلوب ـ كان فضيلة في
صاحبه عند أهل الدنيا ، و إذا صرفه في وجوه البر ، و أنفقه في سبيل الخير ، و قصد
بذلك الله و الدار الآخرة ، كان فضيلة عند الكل بكل حال ، و متى كان صاحبه ممسكاً
له غير موجهه وجوهه ، حريصاً على جمعه ، عاد كثرة كالعدم ، و كان منقصة في صاحبه ،
و لم يقف به على جدد السلامة ، بل أوقعه في هوة رذيلة البخل ، و مذمة النذالة ،
فإذا التمدح بالمال و فضيلته عند مفضله ليست لنفسه ، و إنما هو للتوصل به إلى غيره
، و تصريفه في متصرفاته ، فجامعه إذا لم يضعه مواضعه ، و لا وجهه وجوهه غير مليء
بالحقيقة و لا غنى بالمعنى ، و لا ممتدح عند أحد من العقلاء ، بل هو فقير أبداً
غير واصل إلى غرض من أغراضه ، إذ ما بيده من المال الموصل لها لم يسلط عليه ،
فأشبه خازن مال غيره ، و لا مال له ، فكان ليس في يده منه شيء .
و المنفق مليء و غني بتحصيله فوائد المال ، و إن لم يبق في يده من المال شيء .
فانظر سيرة نبينا صلى الله عليه و سلم و خلقه في المال تجده قد أوتي خزائن الأرض ،
و مفاتيح البلاد ، و أحلت له الغنائم ، و لم تحل لنبي قبله ، و فتح عليه في حياته
صلى الله عليه و سلم بلاد الحجاز و اليمن ، و جميع جزيرة العرب ، و ما دانى ذلك من
الشام و العراق ، و جلبت إليه من أخماسها و جزيتها و صدقاتها ما لا يجني للملوك
إلا بعضه ، و هادته جماعة من ملوك الأقاليم فيما استأثر بشيء منه ، و لا مسك منه
درهما ، بل صرفه مصارفه ، و أغنى به غيره ، و قوى به المسلمين ، و قال : ما يسرني
أن لي أحداً ذهباً يبيت عندي منه دينار ، إلا ديناراً أرصده لدين .
و أتته دنانير مرة فقسمها ، و بقيت منه ستة ، فدفعها لبعض نسائه ، فلم يـأخذه نوم
حتى قام و قسمها ، و قال : الآن استرحت .
و مات و درعه مرهونة في نفقة عياله .
و اقتصر من نفقته و ملبسه و مسكنه على ما تدعو ضرورته إليه .
و زهد فيما سواه ، فك ان يلبس ما وجده ، فيلبس في الغالب الشملة ، و الكساة الخشن
، و البرد الغليظ ، و يقسم على من حضره أقيبة الديباج المخوصة بالذهب ، و يرفع لمن
لم يحضره ، إذ المباهاة في الملابس و التزين بها ليست من خصال الشرف و الجلالة ، و
هي من سمات النساء .
و المحمود منها نقاوة الثوب ، و التوسط في جنسه ، و كونه لبس مثله ، غير مسقط
لمروءة جنسه مما لا يؤدي إلى الشهرة في الطرفين .
و قد ذم الشرع ذلك ، و غاية الفخر فيه في العادة عند الناس إنما يعود إلى الفخر
بكثرة الموجود ، و وفور الحال .
و كذلك التباهي بجودة المسكن ، و سعة المنزل ، و تكثير آلاته و خدمه و مركوباته .
و من ملك الأرض ، و جبي إليه ما فيها ، فترك ذلك ذهداً و تنزهاً ، فهو حائز لفضيلة
المال ، و مالك للفخر بهذه الخصلة إن كانت فضيلة زائد عليها في الفخر ، و معرق في
المدح بإضرابه عنها ، و زهدة في فانيها ، و بذلها في مظانها .