الخصال المكتسية من
الأخلاق الحميدة
و
أما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة [ 31 ] و الآداب الشريفة التي اتفق جميع
العقلاء على تفضيل صاحبها ، و تعظيم المتصف بالخلق الواحد منها ، فضلاً عما فوقه و
أثنى على الشرع على جميعها ، و أمر بها ، و وعد السعادة الدائمة للمتخلق بها ، و
وصف بعضها بأنه من أجزاء النبوة ، و هي المسماة بحسن الخلق ، و هو الإعتدال في قوى
النفس و أوصافها ، و التوسط فيها دون الميل إلى منحرف أطرافها ، فجميعها ، قد كانت
خلق نبينا محمد صلى الله عليه و سلم على الإنتهاء في كمالها ، و الإعتدال إلى
غايتها ، حتى أثنى الله بذلك عليه ، فقال تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم [ سورة القلم
/ 68 ، الآية : 4 ] .
قالت عائشة ـ رضي الله عنها : كان خلقه القرآن ، يرضى برضاه ، و يسخط بسخطه .
و قال صلى الله عليه و سلم : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
قال انس : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن الناس خلقاً .
و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثله .
و كان فيما ذكره المحقوق محبولاً عليها في أصل خلقته و أول فطرته ، لم تحصل له
باكتساب و لا رياضة إلا بجود إلهي ، و خصوصية رب انية .
و هكذا لسائر الأنبياء ، و من طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك ، كما عرف
من حال عيسى و موسى ، و يحيى ، و سليمان ، و غيرهم عليهم السلام .
بل غرزت فيهم هذه الأخلاق في الجبلة ، و أودعوا العلم و الحكمة في الفطرة ، قال
الله تعالى : وآتيناه الحكم صبيا [ سورة مريم / 19 ، الآية : 12 ] .
قال المفسرون : أعطي يحيى العلم بكتاب الله تعالى في حال صباه .
و قال معمر : كان يحيى ابن سنتين أو ثلاث ، فقال له الصبيان : لم لا تلعب ؟
فقال : أللعب خلقت ! .
و قيل في قوله تعالى : مصدقا بكلمة من الله : صدق يحيى بعيسى ، و هو ابن ثلاث سنين
، فشهد له أنه كلمة الله و روحه .
و قيل : صدقه و هو في بطن أمه ، فكانت أم يحيى تقول لمريم : إنى أجد ما في بطني
يسجد لما في بطنك ، تحتة له . و قد نص الله تعالى على كلام عيسى لأمه عند ولادتها
إياه بقوله لها : أن لا تحزني على قراءة من قرأ من تحتها و على قول من قال : إن
المنادي عيسى .
و نص على كلامه في مهده ' فقال : إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا .
و قال : ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية : 79
] .
و قد ذكر من حكم سليمان و هو صبي يلعب في قصة المجرومة ، و في قصة الصبي ما اقتدى
به داود أبوه .
و حكى الطبري أن عمره كان حين أوتي الملك اثني عشر عاماً .
و كذلك قصة موسى مع فرعون و أخذه بلحيته و هو طفل .
و و قال المفسرون ـ في قوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ، أي هديناه
صغيرا ، قاله مجاهد و غيره .
و قال ابن عطاء : اصطفاه قبل إبداء خلقه .
و قال بعضهم : لما ولد إبراهيم عليه السلام بعث الله تعالى إليه ملكاً يأمره عن
الله أن يعرفه بقلبه ، و يذكره بلسانه ، فقال : قد فعلت ، و لم يقل أفعل ، فذلك
رشده .
و قيل : إن إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار و محنته كانت و هو ابن ست عشرة سنة
، و إن ابتلاء إسحاق بالذبح كان و هو ابن سبع سنين ، و إن استدلال إبراهيم بالكوكب
و القمر و الشمس كان و هو ابن خمسة عشر شهراً .
و قيل : أوحي إلى يوسف و هو صبي عندما هم إخوته بإلقائه في الجب ، يقول الله تعالى
: وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون [ سورة يوسف / 12 ، الآية : 15
] .
[ 32 ] إلى غير ذلك مما ذكرنا من أخبارهم .
و قد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن نبينا محمداً صلى الله عليه و سلم
ولد حين ولد باسطاً يديه إلى الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء .
و قال في حديثه صلى الله عليه و سلم : لما نشأت بغضت إلي الأوثان . و بغض إلى
الشعر .
و لم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين ، فعصمني الله منهما ، ثم لم أعد
.
ثم يتمكن الأمر لهم ، و تترادف نفحات الله عليهم ، و تشرق أنوار المعارف في قلوبهم
، حتى يصلوا الغاية ، و يبلغوا ـ باصطفاء الله تعالى لهم بالنبوة في تحصيل هذه
الخصال الشريفة ـ النهاية دون ممارسة و لا رياضة ، قال الله تعالى : ولما بلغ أشده
آتيناه حكما وعلما [ سورة يوسف / 12 ، الآية 22 ] .
و قد نجد غيرهم يطبع على بعض هذه الأخلاق دون جميعها ، و يولد عليها ، فيسهل عليه
اكتساب تمامها عناية من الله تعالى ، كما نشاهد من خلقه بعض الصبيان على حسن السمت
، أو الشهامة ، أو صدق اللسان ، أو السماحة ، و كما نجد بعضهم على ضدها ،
فبالإكتساب يكمل ناقصها ، و بالرياضة و المجاهدة يستجلب معدومها ، و يعتدل منحرفها
، و باختلاف هذين الحالين يتفاوت الناس فيها . و كل ميسر لما خلق له . و لهذا ما
قد اختلف السلف فيها : هل هذا الخلق ج بلة أو مكتسبة ؟ .
فحكى الطبري عن بعض السلف أن الخلق الحسن جبلة و غريزة في العبد ، و حكاه عن عبد
الله بن مسعود ، و الحسن ، و به قال هو .
و الصواب ما أصلناه . و قد روى سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : كل
الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة و الكذب .
و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديثه : و الجرأة ، و الجبن غرائز يضعها الله
حيث يشاء . و هذه الأخلاق المحمودة و الخصال الجميلة كثيرة ، و لكنا نذكر أصولها ،
و نشير إلى جميعها ، و نحقق وصفه صلى الله عليه و سلم بها إن شاء الله تعالى .