الفرق بين الحلم و
الإحتمال ، و العفو مع القدرة ، و الصبر على ما يكره
و
أما الحلم و الاحتمال ، و العفو مع القدرة ، و الصبر على ما يكره ، و بين هذه الألقاب
فرق ، فإن الحلم حالة توقر و ثبات عند الأسباب المحركات . و الاحتمال : حبس النفس
عند الآلام و المؤذيات . و مثلها الصبر ، و معانيها متقاربة .
و أما العفو فهو ترك المؤاخذة .
و هذا كله مما أدب الله تعالىبه نبيه صلى الله عليه و سلم ، فقال : خذ العفو وأمر بالعرف
وأعرض عن الجاهلين [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 99 1 ] .
روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم نزلت عليه هذه الآية سأل جبريل عليه السلام
عن تأويلها ، فقال له : أسأل العالم .
ثم ذهب فأتاه ، فقال : يامحمد . إن الله يأمرك أن تصل من قطعك ، و تعطي من حرمك ،
و تعفو عمن ظلمك .
قال له : واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور .
و قال تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ سورة الأحقاف / 6 4 ، الآية :
35 ]
قال : وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم .
و قال : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ سورة الشورى / 42 ، الآية : 3 4 ]
.
و لا خفاء بما يؤثر من حلمه و احتماله ، و أن كل حليم قد عرفت منه زله ، و حفظت
عنه هفوه ، وهو صلى الله عليه و سلم لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبراً ، و على
اسراف الجاهل إلا حلماً .
حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن علي التغلبي و غيره ، قالو ا : حدثنا محمد بن
عتاب ، حدثنا أبو بكر بن و افد القاضي و غيره ، حدثنا أبو عيس ، حدثنا عبيد الله ،
قال حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله
عنها ، قالت : ما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمرين قط إلا اختار أيسرهم
ما لم يكن اثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ، و ما انتقم رسول الله صلى
الله عليه و سلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمه الله تعالى، فينتقم الله بها .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم كسرت رباعيته و شج و جهه يوم أحد شق ذلك
على أصحابه شديداً ، و قالو : لو دعوت عليهم ! فقال : إني لم أبعث لعاناً ، و لكني
بعثت داعياً و رحمة . اللهم اهد قومي فإنهم لايعلمون .
و روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في بعض كلامه : بأبي أنت و أمي يا رسول الله !
لقد دعا نوح على قومه ، فقال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . و لو دعوت
علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا ، فلقد وطيء ظهرك ، و أدمي وجهك ، و كسرت رباعيتك
، فأبيت أن تقول إلا خيراً ، فقلت : اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون .
قال القاضي ابو الفضل وفقه الله : انظر في هذا القول من جماع الفضل ، و درجات
الإحسان ، و حسن الخلق ، و كرم النفس ، و غاية الصبر [ 34 ] و الحلم ، إذ لم يقتصر
صلى الله عليه و سلم على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ، ثم أشفق عليهم و رحمهم ، و
دعا و شفع لهم ، فقال : اغفر أو اهد ، ثم أظهر سبب الشفقة و الرحمة بقوله : لقومي
، ثم اعتذر عنهم بجهلهم ، فقال : فإنهم لا يعلمون .
و لما قال له الرجل : اعدن ، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ـ لم يزده في
جوابه أن يبين له ما جهله .
و وعظ نفسه ، و ذكرها بما قال له ، فقال : و يحك ! فمن يعدل إن لم أعدل ! خبت و
خسرت إن لم أعدل ! و نهى من أراد من أصحابه قتله .
و لما تصدى له غورث بن الحارث ليفتك به ، و رسول الله صلى الله عليه و سلم منتبذ
تحت شجرة وحده قائلاً ، و الناس قائلون ، في غزاة ، فلم ينتبه رسول الله صلى الله
عليه و سلم إلا و ه و قائم و السيف صلتاً في يده ، فقال : من يمنعك مني ؟ فقال الله
فسقط السيف من يده ، فأخذه النبي صلى الله عليه و سلم ، و قال : من يمنعك مني ؟
قال : كن خير آخذ ، فتركه و عفا عنه . فجاء إلى قومه فقال : جئتكم من عند خير
الناس .
و من عظيم خبره في العفو عفوه عن اليهودية التي سمته في الشاة بعد اعترافها ـ على
الصحيح من الرواية .
و أنه لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره ، و قد أعلم به و أوحي إليه بشرح أمره ، و
لا عتب عليه فضلاً عن معاقبته .
و كذلك لم يؤخذ عبد الله بن أبي و أشباهه من المنافقين بعظيم ما نقل عنهم في جهته
قولاً و فعلاً ، بل قال لمن أشار بقتل بعضهم : لا يتحدث أن محمداً يقتل أصحابه .
و عن أنس رضي الله عنه : كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم ، و عليه برد غليظ
الحاشية ، فجبذه الأعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه ،
ثم قال : يا محمد ، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك ، فإنك لا تحمل لي
من مالك و مال أبيك .
فسكت النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم قال : المال مال الله ، و أنا عبده .
ثم قال : و يقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي .
قال : لا .
قال : لم ؟ قال : لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة .
فضحك النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم أمر أن يحمل له على بعيره شعير ، و على الآخر
تمر .
قالت عائشة رضي الله عنهما : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم منتصراً من
مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله . و ما ضرب بيده شيئاً قط إلا أن
يجاهد في سبيل الله . و ما ضرب خادماً قط و لا إمرأة .
و جيء إليه برجل ، فقيل : هذا أراد أن يقتلك . فقال له النبي صلى الله عليه و سلم
: لن تراع ، لن تراع ، و لو أردت ذلك لم تسلط علي .
و جاءه زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقضاه ديناً عليه ، فجبذ ثوبه عن منكبه ، و أخذ
بمجامع ثيابه ، و أغلظ له ، ثم قال : إنكم ، يا نبي عبد المطلب ، مطل ، فانتهره
عمر و شدد له في القول ، و النبي صلى الله عليه و سلم يبتسم .
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا و هو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر ،
تأمرني بحسن القضاء ، و تأمره بحسن التقاضي .
ثم قال : لقد بقي من أجله ثلاث ، و أمر عمر يقضيه ماله و يزيده عشرين صاعاً لما
روعه ، فكان سبب إسلامه .
ذلك انه كان يقول : ما بقي من علامات النبوة شيء إلا و قد عرفتها في محمد إلا
اثنتين لم أخبرهما : يسبق حلمه جهله [ 35 ] ، و لا تزيده شدة الجهل إلا حلماً .
فأختبره بهذا ، فوجده كما وصف .
و الحديث عن حلمه عليه السلام و صبره و عفوه عند القدرة أكثر من أن تأتي عليه ، و
حسبك ما ذكرناه مما في الصحيح و المصنفات الثابتة إلى ما بلغ متواتراً مبلغ اليقين
: من صبره على مقاساة قريش ، و أذى الجاهلية ، و مصابرته الشدائد الصعبة معهم إلى
أن أظفره الله عليهم ، وحكمه فيهم ، و هم لا يشكون في استئصال شأفتهم ، و إبادة
خضرائهم ، فما زاد على أن عفا و صفح ، و قال : ما تقولون أني فاعل بكم ؟ قالوا :
خيراً ، أخ كريم ، و ابن أخ كريم ، فقال : أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم
اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، اذهبوا فأنتم الطلقاء . و قال أنس : هبط
ثمانون رجلاً من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ،
فأخذوا ، فأعقتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأنزل الله تعالى : وهو الذي كف
أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون
بصيرا . و قال لأبي سفيان ـ و قد سيق إليه بعد أن جلب إليه الأحزاب ، و قتل عمه و
أصحابه و مثل بهم ، فعفا عنه ، و لاطفه في القول : ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك
أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ فقال : بأبي أنت و أمي ! ما أحلمك و أوصلك و أكرمك ؟
.
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أبعد الناس غضباً ، و أسرعهم رضاً ، صلى الله
عليه و سلم .