زهده
في الدنيا
و
أما زهده في الدنيا فقد تقدم من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي . و حسبك من
تقلله منها ، و اعراضه عن زهرتها ، و قد سيقت و قد سيقت إليه بحذافيرها ، و ترادفت
عليه فتوحها إلي أن توفي صلى الله عليه و سلم و درعه مرهونة عند يهودي في نفقة
عياله ، و هو يدعو و يقول : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً .
حدثنا سفيان بن العاصي ، و الحسين بن محمد الحافظ ، و القاضي أ أبو عبد الله
التيمي ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو العباس الرازي ، قال حدثنا
أبو أحمد الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا أبو حسين مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو
بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن
عائشة ، قالت : ما شبع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة أيام تباعاً من خبز
حتى مضى لسبيله .
و في رواية أخرى : من خبز شعير يومين متواليين ، و لو شاء الله لأعطاه ما لا يخطر
ببال .
و في رواية أخرى : ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه و سلم من خبز بر حتى لقي
الله تعالى .
قالت عائشة : ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم ديناراً و لا درهماً و لا شاة
و لا بعيراً .
و في حديث عمرو بن الحارث : ما ترك إلا سلاحه و بغلته و أرضاً جعلها صدقة .
قالت عائشة : و لقد مات و ما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي .
و قال لي : إني عرض علي أن تجعل لي بطحاء مكة ذهباً . فقلت : لا ، يا رب ، أجوع
يوماً و أشبع يوماً ، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك و أدعوك ، و أما اليوم
الذي أشبع فيه فأحمدك و أثني عليك .
و في حديث آخر أن جبريل نزل عليه ، فقال له : إن الله تعالى يقرئك السلام ، و يقول
لك : أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهباً ، و تكون معك حيثما كنت ، فأطرق ساعة ، ثم قال
: يا جبريل ، إن الدنيا دار من لا دار له ، و مال من لا مال له ، قد يجمعها من لا
عقل له .
فقال له جبريل : ثبتك الله يا محمد بالقول الثابت .
و عن عائشة قالت : إن كنا آل محمد لنمكث شهراً ما نستوقد ناراً ، إن هو إلا التمر
و الماء .
و عن عبد الرحمن بن عوف : هلك رسول الله صلى الله عليه و سلم [ 45 ] ، و لم يشبع
هو و أهل بيته من خبز الشعير .
و عن عائشة و أبي أمامة ، و ابن عباس نحوه .
قال ابن عباس : كان صلى الله عليه و سلم يبيت هو و أهله الليالي المتتابعة طاوياً
لا يجدون عشاء .
و عن أنس : ما أكل رسول الله صلى الله عليه و سلم على خوان و لا في سكرجة ، و لا
خبز له مرقق ، و لا رأى شاة سميطاً قط .
و عن عائشة : إنما كان فراشه الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف .
و عن حفصة قالت : كان فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيته مسحاً نثنيه
ثنيتين ، فينام عليه ، فثنيناه له ليلة بأربع ، فلما أصبح قال : ما فرشتم لي
الليلة ؟ فذكرنا ذلك له ، فقال : ردوه بحاله فإن وطأته منعتني الليلة صلاتي .
و كان صلى الله عليه و سلم ينام أحياناً على سرير مرمول بشريط حتى يؤثر في جنبه .
و عن عائشة قالت : لم يمتلىء جوف النبي صلى الله عليه و سلم شبعاً قط و لم يبث
شكوى إلى أحد و كانت الفاقة أحب إليه من الغنى ، و إن كان ليظل جائعاً يلتوي طول
ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه ، و لو شاء سئل ربه جميع كنوز الأرض و ثمارها
و رغد عيشها ، و لقد كنت أبكي له رحمة مما أرى به ، و أمسح بيدي على بطنه مما به
من الجوع ، و أقول : نفسي لك الفداء ، و لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك ! فيقول :
يا عائشة ، ما لي و للدنيا ، إخواني من أولى العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد
من هذا ، فمضوا على حالهم ، فقدموا على ربهم ، فأكرم مآبهم ، و أجزل ثوابهم :
فأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم ، و ما من شيء هو أحب إلي
من اللحوق بإخواني و أخلائي .
قالت : فما أقام بعد إلا شهراً حتى توفى صلى الله عليه و سلم .