موقع الحكمة اللآلئ والمرجان
وصف النبي صلى الله عليه وسلم
حديث
جامع لوصفه
قد
أتيناك ـ أكرمك الله ـ من ذكر الأخلاق الحميدة ، و الفضائل المجيدة ، و خصال
الكمال العديدة ، و أريناك صحتها له صلى الله عليه و سلم ، و جلينا من الآثار ما
فيه مقنع ، و الأمر أوسع ، فمجال هذا الباب في حقه صلى الله عليه و سلم ممتد ،
تنقطع دون نفاده الأدلاء ، و بحر علم خصائصه زاخر لا تكدره الدلاء ، لكنا أتينا
فيه بالمعروف مما أكثر في الصحيح و المشهور من المصنفات ، و اقتصرنا في ذلك بقل من
كل ، و غيض من فيض ، و رأينا أن نختم هذه الفصول بذكر حديث الحسن ، عن أبي هالة ،
لجمعه من شمائله و أوصافه كثيراً ، و إدماجه جملة كافيةً من سيره و فضائله ، و
نصله بتنبيه لطيف على غريبه و مشكله .
حدثنا القاضي أبو الحسن بن محمد الحافظ ـ رحمه الله ـ بقراءتي عليه سنة ثمان و
خمسمائة [ 49 ] ، قال : حدثنا الإمام أبو القاسم عبد الله بن طاهر التميمي قراءةً
عليه ، أخبركم الفقيه الأديب أبو بكر محمد بن عبد الله بن الحسن النيسابوري ، و
الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن المحمدي ، و القاضي أبو علي
الحسن بن علي بن جعفر الوحشي ، قالوا : حدثنا أبو ا لقاسم علي بن أحمد بن محمد بن
الحسن الخزاعي ، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، أنبأنا أبو عيسى بن سورة
الحافظ ، قال : حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي إملاءً
من كتابه ، قال : حدثني رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة أم المؤمنين
رضي الله عنها ، يكنى أبا عبد الله ، عن ابن لأبي هالة ، عن الحسن بن علي أبي طالب
رحمه الله ، قال : سألت خالي هند بن أبي هالة .
قال القاضي أبو علي رحمه الله : و قرأت على الشيخ أبي طاهر أحمد بن الحسن ابن أحمد
بن خذاداذ الكرجي الباقلاني ، قال : و أجاز لنا الشيخ الأجل أبو الفضل أحمد ابن
الحسين بن خيرون ، قالا : حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن ابن
محمد بن شاذان بن حرب بن مهران الفارسي قراءةً عليه فأقر به ، قال : أخبرنا أبو
محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن علي ابن [
الحسين بن علي ] بن أبي طالب المعروف بابن أخي طاهر العلوي قال : حدثنا إسماعيل بن
محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، قا ل :
حدثني علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أخيه موسى بن جعفر ، عن جعفر بن
محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن علي بن الحسين ، قال : قال الحسن بن علي ـ و
اللفظ لهذا السند : سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه و
سلم ـ و كان وصافاً ـ و أنا أرجو أن يصفع لي منها شيئاً أتعلق به ، قال :
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلإلأ القمر ليلة
البدر ، أطول من المربوع ، و أقصر من المشذب ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، إن
انفرقت عقيقته فرق ، و إلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه ، إذا هو وفره ، أزهر اللون ،
واسع الجبين، أزج الحواجب ، سوابغ ، من غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب ، أقنى
العرنين ، له نور يعلوه ، و يحسبه من لم يتأمله أشم ، كث اللحية ، أدعج ، سهل
الخدين ، ضليع الفم أشنب ، مفلج الأسنان ، دقيق المسربة ، كأن عنقه جيد دمية في
صفاء الفضة ، معتدل الخق ، بادناً ، متماسكاً ، سواء البطن و الصدر ، مشيح الصدر ،
بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة و السرة
بشعر يجري كالحظ ، عاري الثديين ، م ا سوى ذلك ، أشعر الذراعين و المنكبين و أعالي
الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شئن الكفين و القدمين ، سائل الأطراف ـ [ أو
قال : سائن الأطراف ] ، سبط العصب ، خمصان الأخمصين ، مسيح القدمين ، ينبو عنهما
الماء ، إذا زال زال تقلعا ، و يخطو تكفأً ، و يمشي هوناً ، ذريع المشية ، إذا مشى
كأنما ينحط من صبب ، و إذا التفت التفت جميعاً ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول
من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ، [ 50 ] و يبدأ من لقيه
بالسلام .
قلت : صف لي منطقه .
قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له
راحة ، و لا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه ، و
يتكلم بجوامع الكلم فصلاً ، لا فضول فيه و لا تقصير ، دمثاً ليس بالجافي و لا
المهين ، يعظم النعمة و إن دقت ، لا يذم شيئاً ، لم يكن يذم ذواقاً ، و لا يمدحه ،
و لا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له ، و لا يغضب لنفسه و لا ينتصر
لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، و إذا تعجب قلبها و إذا تحدث اتصل بها ، فضرب
بإبهامه اليمنى راحته اليسرى ، و إذا غضب أعرض و أشاح ، و إذا فرح غض طرفه ، جل
ضحكه التبسم ، و يفتر عن مثل حب الغمام .
قال الحسن : فكتمتها الحسين : فكتمتها الحسين بن علي زماناً ،ثم حدثته فوجدته قد
سبقني إليه ، فسأل أباه عن مدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم و مخرجه و مجلسه و
شكله ، فلم يدع منه شيئاً .
قال الحسين : سألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال :
كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك ، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة
أجزاء : جزءاً لأهله ، و جزؤاً لنفسه ، جزأ جزأه بينه و بين الناس ، فيرد ذلك على
العامة بالخاصة ، و لا يدخر عنهم شيئاً ، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل
الفضل بإذنه و قسمته على قدر فضلهم في الدين ، منهم ذو الحاجة ، و منهم ذو الحاجتين
، و منهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ، و يشغلهم فيما أصلحهم ، و الأمة من مسألته
عنهم و إخبارهم بالذي ينبغي لهم ، و يقول : ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، و أبلغوني
حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها
ثبت الله قدميه يوم القيامة . لا يذكر عنده إلا ذلك ، و لا يقبل من أحد غيره .
و قال في حديث سفيان بن وكيع : يدخلن رواداً ، و لا يتفرقون إلا عن ذواق ، و
يخرجون أدلة ـ يعني فقهاء .
قلت : فأخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟
قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم و يؤلفهم و لا
يفرقهم ، يكرم كريم كل قوم ، و يوليه عليهم ، و يحذر الناس ، و يحترس منهم ، من
غير أن يطوي عن أحد بشره و خلقه ، و يتفقد أصحابه ، و يسأل الناس ، و يحسن الحسن و
يصوبه ، و يقبح القبيح و يوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا
أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقتصر عن الحق ، و لا يجاوزه إلى غيره ، الذي
يلونه من الناس خيارهم ، و أفضلهم عند أعمهم نصيحة ، و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم
مواساة و موازرة .
فسألته عن مجلسه : عما كان يصنع فيه .
فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجلس و لا يقوم إلا على ذكر ، و لا
يوطن الأماكن ، و ينهى عن إيطانها ، و إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس
، و يأمر بذلك ، و يعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب ، جليسه أن أحداً أكرم عليه
فيه ، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى [ 51 ] يكون هو المنصرف عنه .
من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول . قد وسع ا لناس ، بسطه و خلقه ،
فصار لهم أباً ، و صاروا عنده في الحق سواء ، متقاربين متفاضلين فيه التقوى .
و في الرواية الآخرى : صاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم و حياء ، و صبر و
أمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، و لا تؤبن فيه الحرم ، و لا تثنى فلتاته ، و هذه
الكلمة ، من غير الروايتين .
يتعاطون فيه بالتقوى متواصفين ، يوقرون فيه الكبير ، و يرحمون الصغير ، و يرفدون
ذا الحاجة ، و يرحمون الغريب .
فسألته عن سيرته صلى الله عليه و سلم في جلسائه .
فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ،
ليس بفظ و لا غليظ ، و لا سخاب ، و لا فحاش ، و لا عياب و لا مداح ، يتغافل عما لا
يشتهي و لا يوئس منه ، قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء ، و الإكثار ، و ما لا يعنيه
، و ترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ، و لا يعيره ، و لا يطلب عورته ، و لا
يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤسهم الطير ، إذا
سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث . من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم
حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ، و يتعجب مما يتعجبون منه ، و يصبر للغريب على
ال جفوة في المنطق ، و يقول : إذا رأيتم صاحب الحجة يطلبها فأرفدوه ، و لا يطلب
الثناء إلا من مكافىء ، و لا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو
قيام .
هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع .
و زاد الآخر : كيف كان سكوته صلى الله عليه و سلم ؟
قال : كان سكوته على أربع : الحلم ، و الحذر ، و التقدير ، و التفكير . فأما
تقديره ففي تسوية النظر و الإستماع بين الناس ، و أما تفكره ففيما يبقى و يفنى .
و جمع له الحلم صلى الله عليه و سلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء يستفزه ، و جمع
له في الحذر أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، و تركه القبيح لينتهى عنه ، و اجتهاد
الرأي بما أصلح أمته ، و القيام لهم بما جمع أمر الدنيا و الآخرة .
انتهى الوصف بحمد الله و عونه .
وصف النبي صلى الله عليه وسلم
حديث
جامع لوصفه
قد
أتيناك ـ أكرمك الله ـ من ذكر الأخلاق الحميدة ، و الفضائل المجيدة ، و خصال
الكمال العديدة ، و أريناك صحتها له صلى الله عليه و سلم ، و جلينا من الآثار ما
فيه مقنع ، و الأمر أوسع ، فمجال هذا الباب في حقه صلى الله عليه و سلم ممتد ،
تنقطع دون نفاده الأدلاء ، و بحر علم خصائصه زاخر لا تكدره الدلاء ، لكنا أتينا
فيه بالمعروف مما أكثر في الصحيح و المشهور من المصنفات ، و اقتصرنا في ذلك بقل من
كل ، و غيض من فيض ، و رأينا أن نختم هذه الفصول بذكر حديث الحسن ، عن أبي هالة ،
لجمعه من شمائله و أوصافه كثيراً ، و إدماجه جملة كافيةً من سيره و فضائله ، و
نصله بتنبيه لطيف على غريبه و مشكله .
حدثنا القاضي أبو الحسن بن محمد الحافظ ـ رحمه الله ـ بقراءتي عليه سنة ثمان و
خمسمائة [ 49 ] ، قال : حدثنا الإمام أبو القاسم عبد الله بن طاهر التميمي قراءةً
عليه ، أخبركم الفقيه الأديب أبو بكر محمد بن عبد الله بن الحسن النيسابوري ، و
الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن المحمدي ، و القاضي أبو علي
الحسن بن علي بن جعفر الوحشي ، قالوا : حدثنا أبو ا لقاسم علي بن أحمد بن محمد بن
الحسن الخزاعي ، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، أنبأنا أبو عيسى بن سورة
الحافظ ، قال : حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي إملاءً
من كتابه ، قال : حدثني رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة أم المؤمنين
رضي الله عنها ، يكنى أبا عبد الله ، عن ابن لأبي هالة ، عن الحسن بن علي أبي طالب
رحمه الله ، قال : سألت خالي هند بن أبي هالة .
قال القاضي أبو علي رحمه الله : و قرأت على الشيخ أبي طاهر أحمد بن الحسن ابن أحمد
بن خذاداذ الكرجي الباقلاني ، قال : و أجاز لنا الشيخ الأجل أبو الفضل أحمد ابن
الحسين بن خيرون ، قالا : حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن ابن
محمد بن شاذان بن حرب بن مهران الفارسي قراءةً عليه فأقر به ، قال : أخبرنا أبو
محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن علي ابن [
الحسين بن علي ] بن أبي طالب المعروف بابن أخي طاهر العلوي قال : حدثنا إسماعيل بن
محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، قا ل :
حدثني علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أخيه موسى بن جعفر ، عن جعفر بن
محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن علي بن الحسين ، قال : قال الحسن بن علي ـ و
اللفظ لهذا السند : سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه و
سلم ـ و كان وصافاً ـ و أنا أرجو أن يصفع لي منها شيئاً أتعلق به ، قال :
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلإلأ القمر ليلة
البدر ، أطول من المربوع ، و أقصر من المشذب ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، إن
انفرقت عقيقته فرق ، و إلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه ، إذا هو وفره ، أزهر اللون ،
واسع الجبين، أزج الحواجب ، سوابغ ، من غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب ، أقنى
العرنين ، له نور يعلوه ، و يحسبه من لم يتأمله أشم ، كث اللحية ، أدعج ، سهل
الخدين ، ضليع الفم أشنب ، مفلج الأسنان ، دقيق المسربة ، كأن عنقه جيد دمية في
صفاء الفضة ، معتدل الخق ، بادناً ، متماسكاً ، سواء البطن و الصدر ، مشيح الصدر ،
بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة و السرة
بشعر يجري كالحظ ، عاري الثديين ، م ا سوى ذلك ، أشعر الذراعين و المنكبين و أعالي
الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شئن الكفين و القدمين ، سائل الأطراف ـ [ أو
قال : سائن الأطراف ] ، سبط العصب ، خمصان الأخمصين ، مسيح القدمين ، ينبو عنهما
الماء ، إذا زال زال تقلعا ، و يخطو تكفأً ، و يمشي هوناً ، ذريع المشية ، إذا مشى
كأنما ينحط من صبب ، و إذا التفت التفت جميعاً ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول
من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ، [ 50 ] و يبدأ من لقيه
بالسلام .
قلت : صف لي منطقه .
قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له
راحة ، و لا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه ، و
يتكلم بجوامع الكلم فصلاً ، لا فضول فيه و لا تقصير ، دمثاً ليس بالجافي و لا
المهين ، يعظم النعمة و إن دقت ، لا يذم شيئاً ، لم يكن يذم ذواقاً ، و لا يمدحه ،
و لا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له ، و لا يغضب لنفسه و لا ينتصر
لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، و إذا تعجب قلبها و إذا تحدث اتصل بها ، فضرب
بإبهامه اليمنى راحته اليسرى ، و إذا غضب أعرض و أشاح ، و إذا فرح غض طرفه ، جل
ضحكه التبسم ، و يفتر عن مثل حب الغمام .
قال الحسن : فكتمتها الحسين : فكتمتها الحسين بن علي زماناً ،ثم حدثته فوجدته قد
سبقني إليه ، فسأل أباه عن مدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم و مخرجه و مجلسه و
شكله ، فلم يدع منه شيئاً .
قال الحسين : سألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال :
كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك ، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة
أجزاء : جزءاً لأهله ، و جزؤاً لنفسه ، جزأ جزأه بينه و بين الناس ، فيرد ذلك على
العامة بالخاصة ، و لا يدخر عنهم شيئاً ، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل
الفضل بإذنه و قسمته على قدر فضلهم في الدين ، منهم ذو الحاجة ، و منهم ذو الحاجتين
، و منهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ، و يشغلهم فيما أصلحهم ، و الأمة من مسألته
عنهم و إخبارهم بالذي ينبغي لهم ، و يقول : ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، و أبلغوني
حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها
ثبت الله قدميه يوم القيامة . لا يذكر عنده إلا ذلك ، و لا يقبل من أحد غيره .
و قال في حديث سفيان بن وكيع : يدخلن رواداً ، و لا يتفرقون إلا عن ذواق ، و
يخرجون أدلة ـ يعني فقهاء .
قلت : فأخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟
قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم و يؤلفهم و لا
يفرقهم ، يكرم كريم كل قوم ، و يوليه عليهم ، و يحذر الناس ، و يحترس منهم ، من
غير أن يطوي عن أحد بشره و خلقه ، و يتفقد أصحابه ، و يسأل الناس ، و يحسن الحسن و
يصوبه ، و يقبح القبيح و يوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا
أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقتصر عن الحق ، و لا يجاوزه إلى غيره ، الذي
يلونه من الناس خيارهم ، و أفضلهم عند أعمهم نصيحة ، و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم
مواساة و موازرة .
فسألته عن مجلسه : عما كان يصنع فيه .
فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجلس و لا يقوم إلا على ذكر ، و لا
يوطن الأماكن ، و ينهى عن إيطانها ، و إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس
، و يأمر بذلك ، و يعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب ، جليسه أن أحداً أكرم عليه
فيه ، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى [ 51 ] يكون هو المنصرف عنه .
من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول . قد وسع ا لناس ، بسطه و خلقه ،
فصار لهم أباً ، و صاروا عنده في الحق سواء ، متقاربين متفاضلين فيه التقوى .
و في الرواية الآخرى : صاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم و حياء ، و صبر و
أمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، و لا تؤبن فيه الحرم ، و لا تثنى فلتاته ، و هذه
الكلمة ، من غير الروايتين .
يتعاطون فيه بالتقوى متواصفين ، يوقرون فيه الكبير ، و يرحمون الصغير ، و يرفدون
ذا الحاجة ، و يرحمون الغريب .
فسألته عن سيرته صلى الله عليه و سلم في جلسائه .
فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ،
ليس بفظ و لا غليظ ، و لا سخاب ، و لا فحاش ، و لا عياب و لا مداح ، يتغافل عما لا
يشتهي و لا يوئس منه ، قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء ، و الإكثار ، و ما لا يعنيه
، و ترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ، و لا يعيره ، و لا يطلب عورته ، و لا
يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤسهم الطير ، إذا
سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث . من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم
حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ، و يتعجب مما يتعجبون منه ، و يصبر للغريب على
ال جفوة في المنطق ، و يقول : إذا رأيتم صاحب الحجة يطلبها فأرفدوه ، و لا يطلب
الثناء إلا من مكافىء ، و لا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو
قيام .
هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع .
و زاد الآخر : كيف كان سكوته صلى الله عليه و سلم ؟
قال : كان سكوته على أربع : الحلم ، و الحذر ، و التقدير ، و التفكير . فأما
تقديره ففي تسوية النظر و الإستماع بين الناس ، و أما تفكره ففيما يبقى و يفنى .
و جمع له الحلم صلى الله عليه و سلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء يستفزه ، و جمع
له في الحذر أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، و تركه القبيح لينتهى عنه ، و اجتهاد
الرأي بما أصلح أمته ، و القيام لهم بما جمع أمر الدنيا و الآخرة .
انتهى الوصف بحمد الله و عونه .