صدى الزواقين وزان وجبالة

صدى الزواقين Echo de Zouakine
صدى الزواقين وزان وجبالة echo de zouakine ouezzane et jbala

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

صدى الزواقين وزان وجبالة

صدى الزواقين Echo de Zouakine
صدى الزواقين وزان وجبالة echo de zouakine ouezzane et jbala

صدى الزواقين وزان وجبالة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

صدى الزواقين وزان وجبالة ذكريات تراث تقاليد تعارف ثقافة وترفيه


    فتح الباري شرح صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ

    الشيخ الداودي
    الشيخ الداودي
    راقي ومعالج
    راقي ومعالج


    عدد الرسائل : 1046
    ذكر

    تاريخ التسجيل : 20/07/2008
    نقاط : 1858

    iqrae فتح الباري شرح صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ

    مُساهمة من طرف الشيخ الداودي الخميس 30 يونيو 2011 - 3:18


    فتح الباري شرح صحيح البخاري ألفه الحافظ ابن حجر العسقلاني وهو من أعظم كتب تفسير الحديث
    وأجمعها في شرح صحيح البخاري الذي اتفق المسلمون على أنه أصح كتاب
    بعد كتاب الله. كتبه في أكثر من 25 سنة حيث بدأ في أوائل 817هـ، وكان عمره 44 سنة،
    وفرغ منه في رجب سنة 842هـ.

    الإمام
    العلامة الحافظ شيخ الإسلام


    أبو الفضل
    أحمد بن علاء الدين المعروف: بابن حجر
    العسقلاني
    المصري

    لقد كان من أعظم كتب ابن حجر قدراً، وأعمقها علوماً، وأحظاها لدى
    المسلمين: شرحه
    على الجامع الصحيح – الذي اتفق المسلمون على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله
    – وهو صحيح
    الإمام البخاري (256)ه الذي سمَّاه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"
    والذي يُعَّد
    بحق أحد دواوين الإسلام المعتبرة، ومصادره العلمية المهمة، فلا يستغني
    عنه طالب علم
    ولا فقيه؛ بل ولا مفتٍ ولا مجتهد، فجاء الشرح سفراً ضخماً جليلاً. أخذ
    في جمعه
    وتأليفه وإملائه وتنقيحه أكثر من خمس وعشرين سنة، حيث ابتدأه في أوائل
    سنة 817ه،
    وعمره آنذاك 44 سنة، وفرغ منه في غرة رجب من سنة 842ه فجمع فيه شروح من
    قبله على
    صحيح البخاري، باسطاً فيه إيضاح الصحيح وبيان مشكلاته، وحكاية مسائل
    الإجماع، وبسط
    الخلاف في الفقه والتصحيح والتضعيف واللغة والقراءات، مع العناية
    الواضحة بضبط
    الصحيح. صحيح البخاري ورواياته والتنويه على الفروق فيها، مع فوائد
    كثيرة وفرائد
    نادرة واستطرادات نافعة … إلخ حتى زادت موارد الحافظ فيه على (1200)
    كتاباً من
    مؤلفات السابقين له.



    الشيخ الداودي
    الشيخ الداودي
    راقي ومعالج
    راقي ومعالج


    عدد الرسائل : 1046
    ذكر

    تاريخ التسجيل : 20/07/2008
    نقاط : 1858

    iqrae رد: فتح الباري شرح صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ

    مُساهمة من طرف الشيخ الداودي الخميس 30 يونيو 2011 - 3:21


    إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ

    1
    حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ حَدَّثَنَا
    سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ
    أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ
    بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
    t عَلَى الْمِنْبَرِ {قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
    r يَقُولُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ
    امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى
    امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ}([2])
    الجزء الأول قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ اللَّهُ
    عَنْهُ -: ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ
    إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
    r ) هَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَالْأَصِيلِيِّ بِغَيْرِ "
    بَابٍ " وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا، فَحَكَى عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ
    فِيهِ التَّنْوِينَ وَتَرْكَهُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ
    الْإِسْكَانُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ لِلْأَبْوَابِ. فَلَا يَكُونُ لَهُ
    إِعْرَابٌ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَفْتَتِحِ
    الْكِتَابَ بِخُطْبَةٍ تُنْبِئُ عَنْ مَقْصُودِهِ مُفْتَتَحَةٍ بِالْحَمْدِ
    وَالشَّهَادَةِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ
    r " {كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ
    فَهُوَ أَقْطَعُ}([3])
    " وَقَوْلِهِ " {كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ فَهِيَ كَالْيَدِ
    الْجَذْمَاءِ}([4])
    " أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.


    وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخُطْبَةَ لَا يَتَحَتَّمُ فِيهَا
    سِيَاقٌ وَاحِدٌ يَمْتَنِعُ الْعُدُولُ عَنْهُ، بَلِ الْغَرَضُ مِنْهَا
    الِافْتِتَاحُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَقَدْ صَدَّرَ الْكِتَابَ
    بِتَرْجَمَةِ بَدْءِ الْوَحْيِ وَبِالْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى مَقْصُودِهِ
    الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ دَائِرٌ مَعَ النِّيَّةِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ:
    قَصَدْتُ جَمْعَ وَحْيِ السُّنَّةِ الْمُتَلَقَّى عَنْ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ عَلَى
    وَجْهٍ سَيَظْهَرُ حُسْنُ عَمَلِي فِيهِ مِنْ قَصْدِي، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ
    مَا نَوَى، فَاكْتَفَى بِالتَّلْوِيحِ عَنِ التَّصْرِيحِ. وَقَدْ سَلَكَ هَذِهِ
    الطَّرِيقَةَ فِي مُعْظَمِ تَرَاجِمِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَا سَيَظْهَرُ
    بِالِاسْتِقْرَاءِ.


    وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَا عَلَى
    شَرْطِهِ، بَلْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَقَالٌ. سَلَّمْنَا صَلَاحِيَّتَهُمَا
    لِلْحُجَّةِ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِمَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ بِالنُّطْقِ
    وَالْكِتَابَةِ مَعًا، فَلَعَلَّهُ حَمِدَ وَتَشَهَّدَ نُطْقًا عِنْدَ وَضْعِ
    الْكِتَابِ وَلَمْ يَكْتُبْ ذَلِكَ اقْتِصَارًا عَلَى الْبَسْمَلَةِ لِأَنَّ
    الْقَدْرَ الَّذِي يَجْمَعُ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ ذِكْرُ اللَّهِ وَقَدْ حَصَلَ
    بِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ {
    ù&tø%$# ÉOó$$Î/ y7În/u}([5])
    فَطَرِيقُ التَّأَسِّي بِهِ الِافْتِتَاحُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالِاقْتِصَارُ
    عَلَيْهَا، لَا سِيَّمَا وَحِكَايَةُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا
    الْبَابُ الْأَوَّلُ، بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ أَحَادِيثِهِ.
    وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الجزء الأول وُقُوعُ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ
    r إِلَى الْمُلُوكِ وَكُتُبِهِ فِي الْقَضَايَا مُفْتَتَحَةً
    بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ حَمْدَلَةٍ وَغَيْرِهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي
    سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ
    الْبَرَاءِ فِي قِصَّةِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ،
    وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ لَفْظَ الْحَمْدِ
    وَالشَّهَادَةِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْخُطَبِ دُونَ الرَّسَائِلِ
    وَالْوَثَائِقِ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا لَمْ يَفْتَتِحْ كِتَابَهُ
    بِخُطْبَةٍ أَجْرَاهُ مَجْرَى الرَّسَائِلِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ لِيَنْتَفِعُوا
    بِمَا فِيهِ تَعَلُّمًا وَتَعْلِيمًا.


    وَقَدْ
    أَجَابَ مَنْ شَرَحَ هَذَا الْكِتَابَ بِأَجْوِبَةٍ أُخَرَ فِيهَا نَظَرٌ، مِنْهَا
    أَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الِابْتِدَاءُ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْحَمْدَلَةِ، فَلَوِ
    ابْتَدَأَ بِالْحَمْدَلَةِ لَخَالَفَ الْعَادَةَ، أَوْ بِالتَّسْمِيَةِ لَمْ
    يُعَدَّ مُبْتَدِئًا بِالْحَمْدَلَةِ فَاكْتَفَى بِالتَّسْمِيَةِ. وَتُعُقِّبَ
    بِأَنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَكَانَ مُبْتَدِئًا بِالْحَمْدَلَةِ
    بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَعْدَ التَّسْمِيَةِ، وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ فِي
    حَذْفِ الْعَاطِفِ فَيَكُونُ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ،
    فَإِنَّ الصَّحَابَةَ افْتَتَحُوا كِتَابَةَ الْإِمَامِ الْكَبِيرِ بِالتَّسْمِيَةِ
    وَالْحَمْدِ وَتَلَوْهَا، وَتَبِعَهُمْ جَمِيعُ مَنْ كَتَبَ الْمُصْحَفَ بَعْدَهُمْ
    فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ
    الْفَاتِحَةِ، وَمَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ رَاعَى قَوْلَهُ
    تَعَالَى {
    $pkšr'¯»tƒ tûïÏ%©!$# (#qãZtB#uä Ÿw (#qãBÏds)è? tû÷üt/ Äytƒ «!$# ¾Ï&Î!qßuur (}([6])
    فَلَمْ يُقَدِّمْ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ شَيْئًا وَاكْتَفَى بِهَا عَنْ
    كَلَامِ نَفْسِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ
    الْحَمْدِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَقَدْ قَدَّمَ التَّرْجَمَةَ
    وَهِيَ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى الْآيَةِ، وَكَذَا سَاقَ السَّنَدَ قَبْلَ لَفْظِ
    الْحَدِيثِ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّرْجَمَةَ وَالسَّنَدَ وَإِنْ
    كَانَا مُتَقَدِّمَيْنِ لَفْظًا لَكِنَّهُمَا مُتَأَخِّرَانِ تَقْدِيرًا فِيهِ
    نَظَرٌ. وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَدَأَ
    بِخُطْبَةٍ فِيهَا حَمْدٌ وَشَهَادَةٌ، فَحَذَفَهَا بَعْضُ مَنْ حَمَلَ عَنْهُ
    الْكِتَابَ. وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا مَا رَأَى تَصَانِيفَ الْأَئِمَّةِ مِنْ
    شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَشُيُوخِ شُيُوخِهِ وَأَهْلِ عَصْرِهِ كَمَالِكٍ فِي
    الْمُوَطَّأِ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَأَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ،
    وَأَبِي دَاوُدَ فِي السُّنَنِ إِلَى مَا لَا يُحْصَى مِمَّنْ لَمْ يُقَدِّمْ فِي
    ابْتِدَاءِ تَصْنِيفِهِ خُطْبَةً، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى التَّسْمِيَةِ، وَهُمُ
    الْأَكْثَرُ، وَالْقَلِيلُ مِنْهُمْ مَنِ افْتَتَحَ كِتَابَهُ بِخُطْبَةٍ،
    أَفَيُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ إِنَّ الرُّوَاةَ عَنْهُ حَذَفُوا ذَلِكَ ؟
    كَلَّا، بَلْ يُحْمَلُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ حَمِدُوا لَفْظًا.
    وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ
    يَتَلَفَّظُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ
    r إِذَا كَتَبَ الْحَدِيثَ وَلَا يَكْتُبُهَا، وَالْحَامِلُ لَهُ
    عَلَى ذَلِكَ إِسْرَاعٌ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا
    ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْخُطَبِ دُونَ الْكُتُبِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَلِهَذَا مَنِ
    افْتَتَحَ كِتَابَهُ مِنْهُمْ بِخُطْبَةٍ حَمِدَ وَتَشَهَّدَ كَمَا صَنَعَ
    مُسْلِمٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَدِ
    اسْتَقَرَّ عَمَلُ الْأَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ عَلَى افْتِتَاحِ كُتُبِ الْعِلْمِ
    بِالْبَسْمَلَةِ وَكَذَا مُعْظَمُ كُتُبِ الرَّسَائِلِ، وَاخْتَلَفَ الْقُدَمَاءُ
    فِيمَا إِذَا كَانَ الْكِتَابُ كُلُّهُ شِعْرًا فَجَاءَ عَنِ الشَّعْبِيِّ مَنْعُ
    ذَلِكَ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يُكْتَبَ فِي
    الشِّعْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
    جَوَازُ ذَلِكَ وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْخَطِيبُ هُوَ
    الْمُخْتَارُ.


    قَوْلُهُ: ( بَدْءُ الْوَحْيِ ) قَالَ عِيَاضٌ: رُوِيَ بِالْهَمْزِ مَعَ
    سُكُونِ الدَّالِ مِنَ الِابْتِدَاءِ، وَبِغَيْرِ هَمْزٍ مَعَ ضَمِّ الدَّالِ
    وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنَ الظُّهُورِ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَهُ مَضْبُوطًا فِي
    شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي
    بَعْضِهَا " كَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ "، فَهَذَا يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ،
    وَهُوَ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَ
    الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَثِيرًا، كَبَدْءِ الْحَيْضِ وَبَدْءِ
    الْأَذَانِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ.


    وَالْوَحْيُ لُغَةً الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ، وَالْوَحْيُ أَيْضًا
    الْكِتَابَةُ وَالْمَكْتُوبُ وَالْبَعْثُ وَالْإِلْهَامُ وَالْأَمْرُ وَالْإِيمَاءُ
    وَالْإِشَارَةُ وَالتَّصْوِيتُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ
    التَّفْهِيمُ، وَكُلُّ مَا دَلَّلْتَ بِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ
    رِسَالَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ فَهُوَ وَحْيٌ. وَشَرْعًا الْإِعْلَامُ الجزء الأول
    بِالشَّرْعِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَحْيُ وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ
    أَيِ الْمُوحَى، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ
    r وَقَدِ اعْتَرَضَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ عَلَى
    هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فَقَالَ: لَوْ قَالَ كَيْفَ كَانَ الْوَحْيُ لَكَانَ
    أَحْسَنَ؛ لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ فِيهِ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوَحْيِ، لَا
    لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ بَدْءِ الْوَحْيِ فَقَطْ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ
    مِنْ بَدْءِ الْوَحْيِ حَالُهُ مَعَ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَأْنِهِ أَيَّ
    تَعَلُّقٍ كَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.


    قَوْلُهُ: ( وَقَوْلُ اللَّهِ ) هُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى حَذْفِ الْبَابِ
    عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَكَذَا عَلَى تَنْوِينِ
    بَابٍ. وَبِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى كَيْفَ وَإِثْبَاتِ بَابٍ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ،
    وَالتَّقْدِيرُ بَابُ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ كَذَا، أَوْ الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ
    اللَّهِ كَذَا، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ كَيْفِيَّةِ قَوْلِ اللَّهِ لِأَنَّ
    كَلَامَ اللَّهِ لَا يُكَيَّفُ قَالَهُ عِيَاضٌ، وَيَجُوزُ رَفْعُ " وَقَوْلُ
    اللَّهِ " عَلَى الْقَطْعِ وَغَيْرِهِ.


    قَوْلُهُ: ( { * !$¯RÎ) !$uZøym÷rr& y7øs9Î)}([7])
    ... الْآيَةَ ) قِيلَ قَدَّمَ ذِكْرَ نُوحٍ فِيهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ
    أُرْسِلَ، أَوْ أَوَّلُ نَبِيٍّ عُوقِبَ قَوْمُهُ، فَلَا يَرِدُ كَوْنُ آدَمَ
    أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ مُطْلَقًا، كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ
    فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ. وَمُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ
    وَاضِحٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ صِفَةَ الْوَحْيِ إِلَى نَبِيِّنَا
    r تُوَافِقُ صِفَةَ الْوَحْيِ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ
    النَّبِيِّينَ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ أَوَّلَ أَحْوَالِ النَّبِيِّينَ فِي الْوَحْيِ
    بِالرُّؤْيَا، كَمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ
    عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ صَاحِبِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا
    يُؤْتَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَنَامِ حَتَّى تَهْدَأَ قُلُوبُهُمْ، ثُمَّ
    يَنْزِلُ الْوَحْيُ بَعْدُ فِي الْيَقَظَةِ.


    قَوْلُهُ: ( حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ
    اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عِيسَى، مَنْسُوبٌ إِلَى حُمَيْدِ بْنِ أُسَامَةَ
    بَطْنٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ رَهْطِ خَدِيجَةَ
    زَوْجِ النَّبِيِّ
    r يَجْتَمِعُ مَعَهَا فِي أَسَدٍ وَيَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ
    r فِي قُصَيٍّ. وَهُوَ إِمَامٌ كَبِيرٌ مُصَنِّفٌ، رَافَقَ
    الشَّافِعِيَّ فِي الطَّلَبِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَطَبَقَتِهِ وَأَخَذَ عَنْهُ
    الْفِقْهَ وَرَحَلَ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ، وَرَجَعَ بَعْدَ وَفَاتِهِ إِلَى مَكَّةَ
    إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. فَكَأَنَّ
    الْبُخَارِيَّ امْتَثَلَ قَوْلَهُ
    r " {قَدِّمُوا قُرَيْشًا} " فَافْتَتَحَ كِتَابَهُ بِالرِّوَايَةِ
    عَنِ الْحُمَيْدِيِّ لِكَوْنِهِ أَفْقَهَ قُرَشِيٍّ أَخَذَ عَنْهُ. وَلَهُ
    مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ مَكِّيٌّ كَشَيْخِهِ فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ فِي
    أَوَّلِ تَرْجَمَةِ بَدْءِ الْوَحْيِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ كَانَ بِمَكَّةَ، وَمِنْ
    ثَمَّ ثَنَّى بِالرِّوَايَةِ عَنْ مَالِكٍ لِأَنَّهُ شَيْخُ أَهْلِ الْمَدِينَةَ
    وَهِيَ تَالِيَةٌ لِمَكَّةَ فِي نُزُولِ الْوَحْيِ وَفِي جَمِيعِ الْفَضْلِ،
    وَمَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ قَرِينَانِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلَاهُمَا
    لَذَهَبَ الْعِلْمُ مِنَ الْحِجَازِ.


    قَوْلُهُ: ( حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بْنِ أَبِي
    عِمْرَانَ الْهِلَالِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ، أَصْلُهُ وَمَوْلِدُهُ
    الْكُوفَةُ، الجزء الأول وَقَدْ شَارَكَ مَالِكًا فِي كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ
    وَعَاشَ بَعْدَهُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ
    سَبْعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ.


    قَوْلُهُ: ( عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي
    ذَرٍّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ. اسْمُ جَدِّهِ قَيْسُ
    بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ صَحَابِيٌّ، وَيَحْيَى مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَشَيْخُهُ
    مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدٍ التَّيْمِيُّ مِنْ
    أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ، وَشَيْخُ مُحَمَّدٍ عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ
    اللَّيْثِيُّ مِنْ كِبَارِهِمْ، فَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ
    فِي نَسَقٍ. وَفِي الْمَعْرِفَةِ لِابْنِ مَنْدَهْ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ عَلْقَمَةَ
    صَحَابِيٌّ، فَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ فِيهِ تَابِعِيَّانِ وَصَحَابِيَّانِ، وَعَلَى
    رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ يَكُونُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَكْثَرُ
    الصِّيَغِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْمُحَدِّثُونَ، وَهِيَ التَّحْدِيثُ
    وَالْإِخْبَارُ وَالسَّمَاعُ وَالْعَنْعَنَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اعْتُرِضَ
    عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي إِدْخَالِهِ حَدِيثَ الْأَعْمَالِ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ
    بَدْءِ الْوَحْيِ وَأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ أَصْلًا، بِحَيْثُ إِنَّ
    الْخَطَّابِيَّ فِي شَرْحِهِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ أَخْرَجَاهُ
    قَبْلَ التَّرْجَمَةِ لِاعْتِقَادِهِمَا أَنَّهُ إِنَّمَا أَوْرَدَهُ لِلتَّبَرُّكِ
    بِهِ فَقَطْ، وَاسْتَصْوَبَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ صَنِيعَ
    الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَمْ يَقْصِدِ
    الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِهِ سِوَى بَيَانِ حُسْنِ نِيَّتِهِ فِيهِ فِي هَذَا
    التَّأْلِيفِ، وَقَدْ تُكُلِّفَتْ مُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ، فَقَالَ: كُلٌّ
    بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ. انْتَهَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَهُ
    مَقَامَ الْخُطْبَةِ لِلْكِتَابِ؛ لِأَنَّ فِي سِيَاقِهِ أَنَّ عُمَرَ قَالَهُ
    عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ فِي
    خُطْبَةِ الْمِنْبَرِ صَلَحَ أَنْ يَكُونَ فِي خُطْبَةِ الْكُتُبِ. وَحَكَى
    الْمُهَلَّبُ أَنَّ النَّبِيَّ
    r خَطَبَ بِهِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا، فَنَاسَبَ
    إِيرَادَهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ كَانَ بِمَكَّةَ ؛ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي
    كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانَتْ كَالْمُقَدِّمَةِ لَهَا لِأَنَّ بِالْهِجْرَةِ
    افْتُتِحَ الْإِذْنُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَعْقُبُهُ النَّصْرُ
    وَالظَّفَرُ وَالْفَتْحُ انْتَهَى. وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّنِي لَمْ
    أَرَ مَا ذَكَرَهُ - مِنْ كَوْنِهِ
    r خَطَبَ بِهِ أَوَّلَ مَا هَاجَرَ - مَنْقُولًا. وَقَدْ وَقَعَ فِي
    بَابِ تَرْكِ الْحِيَلِ بِلَفْظِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
    r يَقُولُ " {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ
    بِالنِّيَّةِ}([8])
    " الْحَدِيثَ، فَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ،
    أَمَّا كَوْنُهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ قُدُومِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ أَرَ
    مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ قَائِلَهُ اسْتَنَدَ إِلَى مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ
    مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نَقَلُوا أَنَّ رَجُلًا
    هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ فَضِيلَةَ
    الْهِجْرَةِ وَإِنَّمَا هَاجَرَ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تُسَمَّى أُمَّ قَيْسٍ،
    فَلِهَذَا خُصَّ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْمَرْأَةِ دُونَ سَائِرِ مَا يُنْوَى
    بِهِ، انْتَهَى. وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَمْ يَسْتَلْزِمِ الْبَدَاءَةَ بِذِكْرِهِ
    أَوَّلَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَقِصَّةُ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ رَوَاهَا
    سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ
    شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ - قَالَ: مَنْ هَاجَرَ
    يَبْتَغِي شَيْئًا فَإِنَّمَا لَهُ ذَلِكَ، هَاجَرَ رَجُلٌ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً
    يُقَالُ لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ وَرَوَاهُ
    الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: كَانَ فِينَا
    رَجُلٌ خَطَبَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ
    حَتَّى يُهَاجِرَ فَهَاجَرَ فَتَزَوَّجَهَا، فَكُنَّا نُسَمِّيهِ مُهَاجِرَ أُمِّ
    قَيْسٍ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، لَكِنْ لَيْسَ
    فِيهِ أَنَّ حَدِيثَ الْأَعْمَالِ سِيقَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ
    مِنَ الطُّرُقِ مَا يَقْتَضِي التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ. وَأَيْضًا فَلَوْ أَرَادَ
    الْبُخَارِيُّ إِقَامَتَهُ مَقَامَ الْخُطْبَةِ فَقَطْ أَوْ الِابْتِدَاءَ بِهِ
    تَيَمُّنًا وَتَرْغِيبًا فِي الْإِخْلَاصِ لَكَانَ سَاقَهُ قَبْلَ التَّرْجَمَةِ
    كَمَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ أَبِي
    عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّجَّارِ قَالَ: التَّبْوِيبُ يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ
    وَالْحَدِيثِ مَعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ
    إِلَى مُحَمَّدٍ
    صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ
    الشيخ الداودي
    الشيخ الداودي
    راقي ومعالج
    راقي ومعالج


    عدد الرسائل : 1046
    ذكر

    تاريخ التسجيل : 20/07/2008
    نقاط : 1858

    iqrae رد: فتح الباري شرح صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ

    مُساهمة من طرف الشيخ الداودي الخميس 30 يونيو 2011 - 3:26


    وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { * tíuŽŸ° Nä3s9 z`ÏiB ÈûïÏe$!$# $tB 4Óœ»ur ¾ÏmÎ/ %[nqçR}([10])
    قَالَ وَصَّاهُمْ بِالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَتِهِ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ
    الْبَوْنِيِّ قَالَ: مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ بَدْءَ الْوَحْيِ
    كَانَ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَطَرَ مُحَمَّدًا الجزء الأول عَلَى
    التَّوْحِيدِ وَبَغَّضَ إِلَيْهِ الْأَوْثَانَ وَوَهَبَ لَهُ أَوَّلَ أَسْبَابِ
    النُّبُوَّةِ وَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَخْلَصَ
    إِلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءَ فَقَبِلَ اللَّهُ
    عَمَلَهُ وَأَتَمَّ لَهُ النِّعْمَةَ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ مَا مُحَصِّلُهُ:
    قَصَدَ الْبُخَارِيُّ الْإِخْبَارَ عَنْ حَالِ النَّبِيِّ
    r فِي حَالِ مَنْشَئِهِ وَأَنَّ اللَّهَ بَغَّضَ إِلَيْهِ
    الْأَوْثَانَ وَحَبَّبَ إِلَيْهِ خِلَالَ الْخَيْرِ وَلُزُومَ الْوِحْدَةِ فِرَارًا
    مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، فَلَمَّا لَزِمَ ذَلِكَ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَلَى قَدْرِ
    نِيَّتِهِ وَوَهَبَ لَهُ النُّبُوَّةَ كَمَا يُقَالُ الْفَوَاتِحُ عُنْوَانُ
    الْخَوَاتِمِ. وَلَخَّصَهُ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
    الْعَرَبِيِّ.


    وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي أَوَّلِ التَّرَاجِمِ: كَانَ مُقَدِّمَةُ
    النُّبُوَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ
    r الْهِجْرَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْوَةِ فِي غَارِ
    حِرَاءَ فَنَاسَبَ الِافْتِتَاحَ بِحَدِيثِ الْهِجْرَةِ. وَمِنَ الْمُنَاسَبَاتِ
    الْبَدِيعَةِ الْوَجِيزَةِ مَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّ الْكِتَابَ
    لَمَّا كَانَ مَوْضُوعًا لِجَمْعِ وَحْيِ السُّنَّةِ صَدَّرَهُ بِبَدْءِ الْوَحْيِ،
    وَلَمَّا كَانَ الْوَحْيُ لِبَيَانِ الْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ صَدَّرَهُ
    بِحَدِيثِ الْأَعْمَالِ، وَمَعَ هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتِ لَا يَلِيقُ الْجَزْمُ
    بِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالتَّرْجَمَةِ أَصْلًا. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ
    يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَقَدْ تَوَاتَرَ النَّقْلُ عَنِ الْأَئِمَّةِ
    فِي تَعْظِيمِ قَدْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ فِي
    أَخْبَارِ النَّبِيِّ
    r شَيْءٌ أَجْمَعَ وَأَغْنَى وَأَكْثَرَ فَائِدَةً مِنْ هَذَا
    الْحَدِيثِ. وَاتَّفَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا
    نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنْهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعَلِيُّ بْنُ
    الْمَدِينِيِّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَحَمْزَةُ
    الْكِنَانِيُّ عَلَى أَنَّهُ ثُلُثُ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ رُبُعُهُ،
    وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ الْبَاقِي. وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ أَيْضًا: يَدْخُلُ
    فِي ثَلَاثِينَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَدْخُلُ فِي
    سَبْعِينَ بَابًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذَا الْعَدَدِ الْمُبَالَغَةَ.
    وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ أَيْضًا: يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ هَذَا
    الْحَدِيثُ رَأْسَ كُلِّ بَابٍ. وَوَجَّهَ الْبَيْهَقِيُّ كَوْنَهُ ثُلُثَ
    الْعِلْمِ بِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ يَقَعُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ،
    فَالنِّيَّةُ أَحَدُ أَقْسَامِهَا الثَّلَاثَةِ وَأَرْجَحُهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ
    تَكُونُ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً وَغَيْرُهَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَمِنْ ثَمَّ
    وَرَدَ: {نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ} ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا
    كَانَتْ خَيْرَ الْأَمْرَيْنِ. وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى
    أَنَّهُ بِكَوْنِهِ ثُلُثَ الْعِلْمِ أَنَّهُ أَرَادَ أَحَدَ الْقَوَاعِدِ
    الثَّلَاثَةِ الَّتِي تُرَدُّ إِلَيْهَا جَمِيعُ الْأَحْكَامِ عِنْدَهُ، وَهِيَ
    هَذَا وَ {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ}([11])
    وَ {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ}([12])
    الْحَدِيثَ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ أَخْرَجَهُ
    الْأَئِمَّةُ الْمَشْهُورُونَ إِلَّا الْمُوَطَّأَ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ
    فِي الْمُوَطَّأِ مُغْتَرًّا بِتَخْرِيجِ الشَّيْخَيْنِ لَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ
    طَرِيقِ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: قَدْ يَكُونُ هَذَا
    الْحَدِيثُ عَلَى طَرِيقَةِ بَعْضِ النَّاسِ مَرْدُودًا لِكَوْنِهِ فَرْدًا؛
    لِأَنَّهُ لَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ، وَلَا عَنْ
    عَلْقَمَةَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا عَنْ
    مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ
    كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا اشْتُهِرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَتَفَرَّدَ
    بِهِ مَنْ فَوْقَهُ وَبِذَلِكَ جَزَمَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
    وَالْبَزَّارُ وَابْنُ السَّكَنِ وَحَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيُّ،
    وَأَطْلَقَ الْخَطَّابِيُّ نَفْيَ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي أَنَّهُ
    لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ لَكِنْ
    بِقَيْدَيْنِ:


    أَحَدُهُمَا: الصِّحَّةُ لِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ مَعْلُولَةٍ
    ذَكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُمَا.


    ثَانِيهُمَا: السِّيَاقُ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ عِدَّةُ
    أَحَادِيثَ صَحَّتْ فِي مُطْلَقِ النِّيَّةِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ
    عِنْدَ مُسْلِمٍ 8" {يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ}([13])
    "، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ " {وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ}([14])
    "، وَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى " {مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
    الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}([15])
    " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ " {رُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ
    الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ}([16])
    " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَحَدِيثِ عُبَادَةَ " {مَنْ غَزَا وَهُوَ لَا يَنْوِي
    إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى}([17])
    " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَسَّرُ حَصْرُهُ،
    وَعُرِفَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ غَلَطُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ
    مُتَوَاتِرٌ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى الجزء الأول التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ
    فَيُحْتَمَلُ. نَعَمْ قَدْ تَوَاتَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: فَحَكَى مُحَمَّدُ
    بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ النَّقَّاشُ الْحَافِظُ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى
    مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ نَفْسًا، وَسَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ
    مَنْدَهْ فَجَاوَزَ الثَّلَاثَمِائَةِ، وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ عَنْ
    بَعْضِ مَشَايِخِهِ مُذَاكَرَةً عَنِ الْحَافِظِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ
    الْأَنْصَارِيِّ الْهَرَوِيِّ قَالَ: كَتَبْتُهُ مِنْ حَدِيثِ سَبْعِمِائَةٍ مِنْ
    أَصْحَابِ يَحْيَى. قُلْتُ: وَأَنَا أَسْتَبْعِدُ صِحَّةَ هَذَا، فَقَدْ
    تَتَبَّعْتُ طُرُقَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ وَالْأَجْزَاءِ
    الْمَنْثُورَةِ مُنْذُ طَلَبْتُ الْحَدِيثَ إِلَى وَقْتِي هَذَا فَمَا قَدَرْتُ
    عَلَى تَكْمِيلِ الْمِائَةِ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ طُرُقَ غَيْرِهِ فَزَادَتْ عَلَى
    مَا نُقِلَ عَمَّنْ تَقَدَّمَ، كَمَا سَيَأْتِي مِثَالٌ لِذَلِكَ فِي الْكَلَامِ
    عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي غُسْلِ الْجُمُعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.


    قَوْلُهُ: ( عَلَى الْمِنْبَرِ ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَاللَّامُ
    لِلْعَهْدِ، أَيْ مِنْبَرِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ
    حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى فِي تَرْكِ الْحِيَلِ: سَمِعْتُ عُمَرَ
    يَخْطُبُ.


    قَوْلُهُ: ( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ) كَذَا أُورِدَ
    هُنَا، وَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، أَيْ كُلُّ عَمَلٍ
    بِنِيَّتِهِ. وَقَالَ الْخُوبِيُّ لَعَلَّهُ الْحَرْبِيُّ كَأَنَّهُ أَشَارَ
    بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ تَتَنَوَّعُ كَمَا تَتَنَوَّعُ الْأَعْمَالُ
    كَمَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ أَوْ تَحْصِيلَ مَوْعُودِهِ أَوْ
    الِاتِّقَاءَ لِوَعِيدِهِ. وَوَقَعَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ بِإِفْرَادِ
    النِّيَّةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ وَهُوَ مُتَّحِدٌ
    فَنَاسَبَ إِفْرَادَهَا. بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ
    بِالظَّوَاهِرِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ فَنَاسَبَ جَمْعَهَا؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ
    تَرْجِعُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَهُوَ وَاحِدٌ لِلْوَاحِدِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ.
    وَوَقَعَتْ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ بِلَفْظِ " {الْأَعْمَالِ
    بِالنِّيَّاتِ}([18])
    " بِحَذْفِ " إِنَّمَا " وَجَمْعِ الْأَعْمَالِ وَالنِّيَّاتِ، وَهِيَ مَا وَقَعَ
    فِي كِتَابِ الشِّهَابِ لِلْقُضَاعِيِّ هُوَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
    مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ جَعْفَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَكْمُونَ الْمُتَوَفَّى
    سَنَةَ 454 وَوَصَلَهُ فِي مُسْنَدِهِ كَذَلِكَ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو مُوسَى
    الْمَدِينِيُّ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَأَقَرَّهُ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ
    بِرِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ، بَلْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى
    عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ " {الْأَعْمَالُ
    بِالنِّيَّةِ}([19])
    "، وَكَذَا فِي الْعِتْقِ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَفِي الْهِجْرَةِ مِنْ
    رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ "
    {الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ}([20])
    " بِإِفْرَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَالنِّيَّةُ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ
    التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي بَعْضِ اللُّغَاتِ بِتَخْفِيفِهَا.
    قَالَ الْكِرْمَانِيُّ قَوْلُهُ " {إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ}([21])
    " هَذَا التَّرْكِيبُ يُفِيدُ الْحَصْرَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَاخْتُلِفَ فِي
    وَجْهِ إِفَادَتِهِ فَقِيلَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ جَمْعٌ مُحَلًّى بِالْأَلِفِ
    وَاللَّامِ مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقَصْرِ لِأَنَّ
    مَعْنَاهُ كُلُّ عَمَلٍ بِنِيَّةٍ فَلَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَقِيلَ لِأَنَّ
    إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَهَلْ إِفَادَتُهَا لَهُ بِالْمَنْطُوقِ أَوْ
    بِالْمَفْهُومِ، أَوْ تُفِيدُ الْحَصْرَ بِالْوَضْعِ أَوِ الْعُرْفِ، أَوْ
    تُفِيدُهُ بِالْحَقِيقَةِ أَوْ بِالْمَجَازِ ؟ وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ
    وَأَتْبَاعِهِ أَنَّهَا تُفِيدُهُ بِالْمَنْطُوقِ وَضْعًا حَقِيقِيًّا، بَلْ
    نَقَلَهُ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأُصُولِ مِنَ
    الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ إِلَّا الْيَسِيرَ كَالْآمِدِيِّ، وَعَلَى الْعَكْسِ
    مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ
    لِلْحَصْرِ لَمَا حَسُنَ إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ فِي جَوَابِ هَلْ قَامَ عَمْرٌو،
    أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنَّهُ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ مَا قَامَ
    إِلَّا زَيْدٌ وَهِيَ لِلْحَصْرِ اتِّفَاقًا، وَقِيلَ: لَوْ كَانَتْ لِلْحَصْرِ
    لَاسْتَوَى إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ مَعَ مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، وَلَا تَرَدُّدَ
    فِي أَنَّ الثَّانِيَ أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ
    مِنْ هَذِهِ الْقُوَّةِ نَفْيُ الْحَصْرِ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ
    أَقْوَى مِنَ الْآخَرِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ كَسَوْفَ
    وَالسِّينِ، وَقَدْ وَقَعَ اسْتِعْمَالُ إِنَّمَا مَوْضِعَ اسْتِعْمَالِ النَّفْيِ
    وَالِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {
    $yJ¯RÎ) tb÷rtøgéB $tB óOçGYä. tbqè=yJ÷ès? ÇÊÏÈ}([22])
    وَكَقَوْلِهِ: {
    $tBur tb÷rtøgéB žwÎ) $tB ÷LäêZä. šcqè=yJ÷ès? ÇÌÒÈ}([23])
    وَقَوْلِهِ: {(خطأ)إِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }([24])
    وَقَوْلِهِ: {
    $¨B n?tã ÉAqߧ9$# žwÎ) à÷»n=t6ø9$# 3}([25])
    وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَلَسْتُ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى
    وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ الجزء الأول يَعْنِي مَا ثَبُتَتِ الْعِزَّةُ
    إِلَّا لِمَنْ كَانَ أَكْثَرَ حَصًى. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ هِيَ بَسِيطَةٌ أَوْ
    مُرَكَّبَةٌ، فَرَجَّحُوا الْأَوَّلَ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الثَّانِي، وَيُجَابُ
    عَمَّا أُورِدَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ " إِنَّ " لِلْإِثْبَاتِ وَ " مَا "
    لِلنَّفْيِ فَيَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعَ الْمُتَضَادَّيْنِ عَلَى صَدَدٍ وَاحِدٍ
    بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: أَصْلُهُمَا كَانَ لِلْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ،
    لَكِنَّهُمَا بَعْدَ التَّرْكِيبِ لَمْ يَبْقَيَا عَلَى أَصْلِهِمَا بَلْ أَفَادَا
    شَيْئًا آخَرَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْكِرْمَانِيُّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ
    قَالَ إِفَادَةُ هَذَا السِّيَاقِ لِلْحَصْرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ تَأْكِيدًا
    بَعْدَ تَأْكِيدٍ وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّمَا وَمِنَ الْجَمْعِ،
    فَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إِيهَامِ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ قَائِلَهُ لَمَّا
    رَأَى أَنَّ الْحَصْرَ فِيهِ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ ظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَا
    وَقَعَ كَذَلِكَ يُفِيدُ الْحَصْرَ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اسْتُدِلَّ
    عَلَى إِفَادَةِ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَدَلَّ عَلَى
    أَنَّ الرِّبَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ بِحَدِيثِ " {إِنَّمَا
    الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ}([26])
    "، وَعَارَضَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْحُكْمِ وَلَمْ يُخَالِفُوهُ فِي
    فَهْمِهِ فَكَانَ كَالِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهَا تُفِيدُ الْحَصْرَ.
    وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا تَرَكُوا الْمُعَارَضَةَ بِذَلِكَ
    تَنَزُّلًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى
    قَوْلِهِ " {لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ}([27])
    " لِوُرُودِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَلَا يُفِيدُ
    ذَلِكَ فِي رَدِّ إِفَادَةِ الْحَصْرِ، بَلْ يُقَوِّيهِ وَيُشْعِرُ بِأَنَّ مُفَادَ
    الصِّيغَتَيْنِ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ، وَإِلَّا لَمَا اسْتَعْمَلُوا هَذِهِ مَوْضِعَ
    هَذِهِ. وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا حَدِيثُ " {إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ
    الْمَاءِ}([28])
    " فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَمْ يُعَارِضُهُمُ
    الْجُمْهُورُ فِي فَهْمِ الْحَصْرِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا عَارَضَهُمْ فِي الْحُكْمِ
    مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى كَحَدِيثِ " {إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ}([29])
    " وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا لَفْظُ لَا يُفَارِقُهُ الْمُبَالَغَةُ
    وَالتَّأْكِيدُ حَيْثُ وَقَعَ، وَيَصْلُحُ مَعَ ذَلِكَ لِلْحَصْرِ إِنْ دَخَلَ فِي
    قِصَّةٍ سَاعَدَتْ عَلَيْهِ، فَجُعِلَ وُرُودُهُ لِلْحَصْرِ مَجَازًا يَحْتَاجُ
    إِلَى قَرِينَةٍ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ أَصْلَ
    وُرُودِهَا لِلْحَصْرِ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ كَقَوْلِهِ
    تَعَالَى {
    $yJ¯RÎ) ª!$# ×m»s9Î) ÓÏmºur (}([30])
    فَإِنَّهُ سِيقَ بِاعْتِبَارِ مُنْكِرِي الْوَحْدَانِيَّةِ، وَإِلَّا فَلِلَّهِ
    سُبْحَانَهُ صِفَاتٌ أُخْرَى كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {
    !$yJ¯RÎ) |MRr& ÖÉZãB (}([31])
    فَإِنَّهُ سِيقَ بِاعْتِبَارِ مُنْكِرِي الرِّسَالَةِ، وَإِلَّا فَلَهُ
    r صِفَاتٌ أُخْرَى كَالْبِشَارَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
    الْأَمْثِلَةِ. وَهِيَ - فِيمَا يُقَالُ - السَّبَبُ فِي قَوْلِ مَنْ مَنَعَ
    إِفَادَتَهَا لِلْحَصْرِ مُطْلَقًا.


    (
    تَكْمِيلٌ ): الْأَعْمَالُ تَقْتَضِي عَامِلَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: الْأَعْمَالُ
    الصَّادِرَةُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَعَلَى هَذَا هَلْ تَخْرُجُ أَعْمَالُ
    الْكُفَّارِ ؟ الظَّاهِرُ الْإِخْرَاجُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْمَالِ
    أَعْمَالُ الْعِبَادَةِ وَهِيَ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَ
    مُخَاطَبًا بِهَا مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهَا وَلَا يَرِدُ الْعِتْقُ وَالصَّدَقَةُ
    لِأَنَّهُمَا بِدَلِيلٍ آخَرَ.


    قَوْلُهُ: ( بِالنِّيَّاتِ ) الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَيُحْتَمَلُ
    أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهَا مُقَوِّمَةٌ لِلْعَمَلِ
    فَكَأَنَّهَا سَبَبٌ فِي إِيجَادِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِ
    الْعَمَلِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا تَتَخَلَّفَ عَنْ أَوَّلِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ:
    النِّيَّةُ الْقَصْدُ، وَهِيَ عَزِيمَةُ الْقَلْبِ. وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ
    بِأَنَّ عَزِيمَةَ الْقَلْبِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْقَصْدِ. وَاخْتَلَفَ
    الْفُقَهَاءُ هَلْ هِيَ رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ مُصَاحَبَةُ النِّيَةِ أَثْنَاءَ
    الْعَمَلِ ؟ وَالْمُرَجَّحُ أَنَّ إِيجَادَهَا ذِكْرًا فِي أَوَّلِ الْعَمَلِ
    رُكْنٌ، وَاسْتِصْحَابَهَا حُكْمًا بِمَعْنَى أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَافٍ شَرْعًا
    شَرْطٌ. وَلَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ،
    فَقِيلَ تُعْتَبَرُ وَقِيلَ تُكَمَّلُ وَقِيلَ تَصِحُّ وَقِيلَ تَحْصُلُ وَقِيلَ
    تَسْتَقِرُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَلَامُ الشَّارِعِ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ
    الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ هُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ،
    فَكَأَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ إِلَّا مِنْ قِبَلِ
    الشَّارِعِ، فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى مَا يُفِيدُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ.
    وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: النِّيَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ انْبِعَاثِ الْقَلْبِ نَحْوَ
    مَا يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ حَالًا أَوْ
    مَآلًا، وَالشَّرْعُ خَصَّصَهُ بِالْإِرَادَةِ الْمُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ الْفِعْلِ
    لِابْتِغَاءِ رِضَاءِ اللَّهِ وَامْتِثَالِ حُكْمِهِ. وَالنِّيَّةُ فِي الْحَدِيثِ
    مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِيَحْسُنَ تَطْبِيقُهُ عَلَى مَا
    بَعْدَهُ وَتَقْسِيمُهُ أَحْوَالَ الْمُهَاجِرِ، فَإِنَّهُ تَفْصِيلٌ لِمَا
    أُجْمِلَ، وَالْحَدِيثُ مَتْرُوكُ الجزء الأول الظَّاهِرِ لِأَنَّ الذَّوَاتَ
    غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا عَمَلَ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، فَلَيْسَ
    الْمُرَادُ نَفْيَ ذَاتِ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، بَلِ
    الْمُرَادُ نَفْيُ أَحْكَامِهَا كَالصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ، لَكِنَّ الْحَمْلَ
    عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِنَفْيِ الشَّيْءِ نَفْسِهِ؛
    وَلِأَنَّ اللَّفْظَ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الذَّاتِ بِالتَّصْرِيحِ وَعَلَى نَفْيِ
    الصِّفَاتِ بِالتَّبَعِ، فَلَمَّا مَنَعَ الدَّلِيلُ نَفْيَ الذَّاتِ بَقِيَتْ
    دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ مُسْتَمِرَّةً. وَقَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ
    الْإِسْلَامِ: الْأَحْسَنُ تَقْدِيرُ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتْبَعُ
    النِّيَّةَ، لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ " فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ " إِلَى
    آخِرِهِ. وَعَلَى هَذَا يُقَدَّرُ الْمَحْذُوفُ كَوْنًا مُطْلَقًا مِنِ اسْمِ
    فَاعِلٍ أَوْ فِعْلٍ. ثُمَّ لَفْظُ الْعَمَلِ يَتَنَاوَلُ فِعْلَ الْجَوَارِحِ
    حَتَّى اللِّسَانِ فَتَدْخُلُ الْأَقْوَالُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ:
    وَأَخْرَجَ بَعْضُهُمُ الْأَقْوَالَ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَا تَرَدُّدَ عِنْدِي فِي
    أَنَّ الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُهَا. وَأَمَّا التُّرُوكُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ
    فِعْلَ كَفٍّ لَكِنْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الْعَمَلِ. وَقَدْ تُعُقِّبَ
    عَلَى مَنْ يُسَمِّي الْقَوْلَ عَمَلًا لِكَوْنِهِ عَمَلَ اللِّسَانِ، بِأَنَّ مَنْ
    حَلَفَ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا فَقَالَ قَوْلًا لَا يَحْنَثَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ
    مَرْجِعَ الْيَمِينِ إِلَى الْعُرْفِ، وَالْقَوْلُ لَا يُسَمَّى عَمَلًا فِي
    الْعُرْفِ وَلِهَذَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْقَوْلَ لَا
    يَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ حَقِيقَةً وَيَدْخُلُ مَجَازًا، وَكَذَا الْفِعْلُ،
    لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
    öqs9ur uä!$x© y7/u $tB çnqè=yèsù (}([32])
    بَعْدَ قَوْلِهِ: {
    t$ã÷zã ÉAöqs)ø9$#}([33])
    . وَأَمَّا عَمَلُ الْقَلْبِ كَالنِّيَّةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْحَدِيثُ
    لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّسَلْسُلَ، وَالْمَعْرِفَةَ: وَفِي تَنَاوُلِهَا نَظَرٌ،
    قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَصْدُ الْمَنَوِيِّ،
    وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْمَرْءُ مَا يَعْرِفُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا
    قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ. وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ سِرَاجُ
    الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَعْرِفَةِ
    مُطْلَقَ الشُّعُورِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ النَّظَرَ فِي
    الدَّلِيلِ فَلَا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذِي عَقْلٍ يَشْعُرُ مَثَلًا بِأَنَّ لَهُ مَنْ
    يُدَبِّرُهُ، فَإِذَا أَخَذَ فِي النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ عَلَيْهِ
    لِيَتَحَقَّقَهُ لَمْ تَكُنِ النِّيَّةُ حِينَئِذٍ مُحَالًا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ
    الْعِيدِ: الَّذِينَ اشْتَرَطُوا النِّيَّةَ قَدَّرُوا صِحَّةَ الْأَعْمَالِ،
    وَالَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوهَا قَدَّرُوا كَمَالَ الْأَعْمَالِ، وَرُجِّحَ
    الْأَوَّلُ بِأَنَّ الصِّحَّةَ أَكْثَرُ لُزُومًا لِلْحَقِيقَةِ مِنَ الْكَمَالِ
    فَالْحَمْلُ عَلَيْهَا أَوْلَى. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِيهَامٌ أَنَّ بَعْضَ
    الْعُلَمَاءِ لَا يَرَى بِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ
    فِي ذَلِكَ إِلَّا فِي الْوَسَائِلِ، وَأَمَّا الْمَقَاصِدُ فَلَا اخْتِلَافَ
    بَيْنَهُمْ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لَهَا، وَمِنْ ثَمَّ خَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ
    فِي اشْتِرَاطِهَا لِلْوُضُوءِ، وَخَالَفَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي
    التَّيَمُّمِ أَيْضًا. نَعَمْ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ فِي اقْتِرَانِ
    النِّيَّةِ بِأَوَّلِ الْعَمَلِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَبْسُوطَاتِ الْفِقْهِ.


    (
    تَكْمِيلٌ ): الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي النِّيَّاتِ مُعَاقِبَةٌ
    لِلضَّمِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ الْأَعْمَالُ بِنِيَّاتِهَا، وَعَلَى هَذَا فَيَدُلُّ
    عَلَى اعْتِبَارِ نِيَّةِ الْعَمَلِ مِنْ كَوْنِهِ مَثَلًا صَلَاةً أَوْ غَيْرَهَا،
    وَمِنْ كَوْنِهَا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، ظُهْرًا مَثَلًا أَوْ عَصْرًا، مَقْصُورَةً
    أَوْ غَيْرَ مَقْصُورَةٍ وَهَلْ يُحْتَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى تَعْيِينِ
    الْعَدَدِ ؟ فِيهِ بَحْثٌ. وَالرَّاجِحُ الِاكْتِفَاءُ بِتَعْيِينِ الْعِبَادَةِ
    الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ، كَالْمُسَافِرِ مَثَلًا لَيْسَ
    لَهُ أَنْ يَقْصُرَ إِلَّا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ، لَكِنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى
    نِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْقَصْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.


    قَوْلُهُ: ( وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) قَالَ
    الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ تَحْقِيقٌ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فِي
    الْأَعْمَالِ، فَجَنَحَ إِلَى أَنَّهَا مُؤَكَّدَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ
    تُفِيدُ غَيْرَ مَا أَفَادَتْهُ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى نَبَّهَتْ عَلَى
    أَنَّ الْعَمَلَ يَتْبَعُ النِّيَّةَ وَيُصَاحِبُهَا، فَيَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ
    عَلَى ذَلِكَ، وَالثَّانِيَةُ أَفَادَتْ أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَحْصُلُ لَهُ إِلَّا
    مَا نَوَاهُ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَقْتَضِي
    أَنَّ مَنْ نَوَى شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ - يَعْنِي إِذَا عَمِلَهُ بِشَرَائِطِهِ -
    أَوْ حَالَ دُونَ عَمَلِهِ لَهُ مَا يُعْذَرُ شَرْعًا بِعَدَمِ عَمَلِهِ وَكُلُّ
    مَا لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ. وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ " مَا لَمْ يَنْوِهِ
    " أَيْ لَا خُصُوصًا وَلَا عُمُومًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا مَخْصُوصًا
    لَكِنْ كَانَتْ هُنَاكَ نِيَّةٌ عَامَّةٌ تَشْمَلُهُ فَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَتْ
    فِيهِ أَنْظَارُ الْعُلَمَاءِ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ مَا لَا
    يُحْصَى. وَقَدْ يَحْصُلُ الجزء الأول غَيْرُ الْمَنْوِيِّ لِمُدْرَكٍ آخَرَ كَمَنْ
    دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى الْفَرْضَ أَوِ الرَّاتِبَةَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ
    فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا؛
    لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالتَّحِيَّةِ شَغْلُ الْبُقْعَةِ وَقَدْ حَصَلَ، وَهَذَا
    بِخِلَافِ مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَنِ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ لَا
    يَحْصُلُ لَهُ غُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى الرَّاجِحِ؛ لِأَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ
    يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى التَّعَبُّدِ لَا إِلَى مَحْضِ التَّنْظِيفِ فَلَا بُدَّ
    فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَاللَّهُ
    أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ اشْتِرَاطَ
    تَعْيِينِ الْمَنْوِيِّ كَمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَائِتَةٌ لَا يَكْفِيهِ أَنْ
    يَنْوِيَ الْفَائِتَةَ فَقَطْ حَتَّى يُعَيِّنَهَا ظُهْرًا مَثَلًا أَوْ عَصْرًا،
    وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّهُ مَا إِذَا لَمْ تَنْحَصِرِ الْفَائِتَةُ. وَقَالَ
    ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي أَمَالِيهِ: أَفَادَتْ أَنَّ الْأَعْمَالَ الْخَارِجَةَ
    عَنِ الْعِبَادَةِ لَا تُفِيدُ الثَّوَابَ إِلَّا إِذَا نَوَى بِهَا فَاعِلُهَا
    الْقُرْبَةَ، كَالْأَكْلِ إِذَا نَوَى بِهِ الْقُوَّةَ عَلَى الطَّاعَةِ. وَقَالَ
    غَيْرُهُ: أَفَادَتْ أَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَدْخُلُ فِي النِّيَّةِ، فَإِنَّ
    ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ، فَلَا يَرِدُ مِثْلُ نِيَّةِ الْوَلِيِّ عَنِ الصَّبِيِّ
    وَنَظَائِرِهِ فَإِنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ
    السَّلَامِ: الْجُمْلَةُ الْأُولَى لِبَيَانِ مَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْأَعْمَالِ،
    وَالثَّانِيَةُ لِبَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا. وَأَفَادَ أَنَّ النِّيَّةَ
    إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ بِنَفْسِهَا،
    وَأَمَّا مَا يَتَمَيَّزُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ بِصُورَتِهِ إِلَى مَا
    وُضِعَ لَهُ كَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ وَالتِّلَاوَةِ لِأَنَّهَا لَا
    تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ
    إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الْوَضْعِ، أَمَّا مَا حَدَثَ فِيهِ عُرْفٌ
    كَالتَّسْبِيحِ لِلتَّعَجُّبِ فَلَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ قُصِدَ بِالذِّكْرِ
    الْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ
    الْغَزَّالِيُّ: حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِالذِّكْرِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ
    تُحَصِّلُ الثَّوَابَ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِالْغِيبَةِ،
    بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنَ السُّكُوتِ مُطْلَقًا، أَيِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّفَكُّرِ.
    قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمَلِ الْقَلْبِ، انْتَهَى.
    وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ
    r " {فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ}([34])
    " ثُمَّ قَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ " {أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ
    وَيُؤْجَرُ}([35])
    ؟ ": " {أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ}([36])
    ". وَأَوْرَدَ عَلَى إِطْلَاقِ الْغَزَّالِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ
    الْمَرْءَ يُثَابُ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِ الْحَرَامِ،
    وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ. وَخُصَّ مِنْ عُمُومِ الْحَدِيثِ مَا يُقْصَدُ
    حُصُولُهُ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ تَخُصُّهُ
    كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَنْ مَاتَ زَوْجُهَا فَلَمْ
    يَبْلُغْهَا الْخَبَرُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا
    تَنْقَضِي؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَقَدْ وُجِدَتْ،
    وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَحْتَجِ الْمَتْرُوكُ إِلَى نِيَّةٍ. وَنَازَعَ الْكِرْمَانِيُّ
    فِي إِطْلَاقِ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ كَوْنَ الْمَتْرُوكِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى
    نِيَّةٍ بِأَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ وَهُوَ كَفُّ النَّفْسِ، وَبِأَنَّ الْتُّرُوكَ
    إِذَا أُرِيدَ بِهَا تَحْصِيلُ الثَّوَابِ بِامْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ فَلَا
    بُدَّ فِيهَا مِنْ قَصْدِ التَّرْكِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ " التَّرْكُ
    فِعْلٌ " مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمِنْ حَقِّ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى الْمَانِعِ أَنْ
    يَأْتِيَ بِأَمْرٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الثَّانِي فَلَا
    يُطَابِقُ الْمَوْرِدَ؛ لِأَنَّ الْمَبْحُوثَ فِيهِ هَلْ تَلْزَمُ النِّيَّةُ فِي
    التُّرُوكِ بِحَيْثُ يَقَعُ الْعِقَابُ بِتَرْكِهَا ؟ وَالَّذِي أَوْرَدَهُ هَلْ
    يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِدُونِهَا ؟ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ ظَاهِرٌ.
    وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّرْكَ الْمُجَرَّدَ لَا ثَوَابَ فِيهِ، وَإِنَّمَا
    يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِالْكَفِّ الَّذِي هُوَ فِعْلُ النَّفْسِ، فَمَنْ لَمْ
    تَخْطُرِ الْمَعْصِيَةُ بِبَالِهِ أَصْلًا لَيْسَ كَمَنْ خَطَرَتْ فَكَفَّ نَفْسَهُ
    عَنْهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَرَجَعَ الْحَالُ إِلَى أَنَّ الَّذِي
    يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ هُوَ الْعَمَلُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ، لَا التَّرْكُ
    الْمُجَرَّدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.


    (
    تَنْبِيهٌ ): قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ
    عَلَى الْمُبْتَدَأِ يُفِيدُ الْقَصْرَ فَفِي قَوْلِهِ " {وَإِنَّمَا لِكُلِّ
    امْرِئٍ مَا نَوَى}([37])
    " نَوْعَانِ مِنَ الْحَصْرِ: قَصْرُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ إِذِ
    الْمُرَادُ إِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَاهُ، وَالتَّقْدِيمُ الْمَذْكُورُ.


    قَوْلُهُ: ( فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا ) كَذَا وَقَعَ
    فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ بِحَذْفِ
    أَحَدِ وَجْهَيِ التَّقْسِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ " {فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى
    اللَّهِ وَرَسُولِهِ}([38])
    إِلَخْ " قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الجزء الأول
    رِوَايَتِنَا وَجَمِيعِ نُسَخِ أَصْحَابِنَا مَخْرُومًا قَدْ ذَهَبَ شَطْرُهُ،
    وَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ هَذَا الْإِغْفَالُ، وَمِنْ جِهَةِ مَنْ عَرَضَ
    مِنْ رُوَاتِهِ ؟ فَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ
    الْحُمَيْدِيِّ مُسْتَوْفًى، وَقَدْ رَوَاهُ لَنَا الْأَثْبَاتُ مِنْ طَرِيقِ
    الْحُمَيْدِيِّ تَامًّا، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ كَلَامَ الْخَطَّابِيِّ
    مُخْتَصَرًا وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مَخْرُومًا أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ أَنَّ فِي
    السَّنَدِ انْقِطَاعًا فَقَالَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ
    يَلْقَ الْحُمَيْدِيَّ، وَهُوَ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْ إِطْلَاقِهِ مَعَ قَوْلِ
    الْبُخَارِيِّ " حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ " وَتَكْرَارُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي هَذَا
    الْكِتَابِ، وَجَزَمَ كُلُّ مَنْ تَرْجَمَهُ بِأَنَّ الْحُمَيْدِيَّ مِنْ شُيُوخِهِ
    فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي مَشْيَخَتِهِ: لَا
    عُذْرَ لِلْبُخَارِيِّ فِي إِسْقَاطِهِ لِأَنَّ الْحُمَيْدِيَّ شَيْخُهُ فِيهِ قَدْ
    رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ عَلَى التَّمَامِ. قَالَ: وَذَكَرَ قَوْمٌ أَنَّهُ
    لَعَلَّهُ اسْتَمْلَاهُ مِنْ حِفْظِ الْحُمَيْدِيِّ فَحَدَّثَهُ هَكَذَا فَحَدَّثَ
    عَنْهُ كَمَا سَمِعَ أَوْ حَدَّثَهُ بِهِ تَامًّا فَسَقَطَ مِنْ حِفْظِ
    الْبُخَارِيِّ. قَالَ: وَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا عِنْدَ مَنِ اطَّلَعَ
    عَلَى أَحْوَالِ الْقَوْمِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ: الْإِسْقَاطُ فِيهِ
    مِنَ الْبُخَارِيِّ فَوُجُودُهُ فِي رِوَايَةِ شَيْخِهِ وَشَيْخِ شَيْخِهِ يَدُلُّ
    عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى. وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ مُوسَى
    وَأَبِي إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ
    تَامًّا، وَهُوَ فِي مُصَنَّفِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ وَمُسْتَخْرَجَيْ أَبِي
    نُعَيْمٍ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ وَصَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ
    الْحُمَيْدِيِّ، فَإِنْ كَانَ الْإِسْقَاطُ مِنْ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ فَقَدْ
    يُقَالُ: لِمَ اخْتَارَ الِابْتِدَاءَ بِهَذَا السِّيَاقِ النَّاقِصِ ؟
    وَالْجَوَابُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ اخْتَارَ
    الْحُمَيْدِيَّ لِكَوْنِهِ أَجَلَّ مَشَايِخِهِ الْمَكِّيِّينَ إِلَى آخِرِ مَا
    تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْقَاطُ مِنْهُ
    فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ
    الْحَافِظُ فِي أَجْوِبَةٍ لَهُ عَلَى الْبُخَارِيِّ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا يُجَابُ
    بِهِ هُنَا أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَ لِكِتَابِهِ
    صَدْرًا يَسْتَفْتِحُ بِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنِ
    اسْتِفْتَاحِ كُتُبِهِمْ بِالْخُطَبِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعَانِي مَا ذَهَبُوا
    إِلَيْهِ مِنَ التَّأْلِيفِ، فَكَأَنَّهُ ابْتَدَأَ كِتَابَهُ بِنِيَّةٍ رَدَّ
    عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ، فَإِنْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ الدُّنْيَا أَوْ
    عَرَضَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهَا فَسَيَجْزِيهِ بِنِيَّتِهِ. وَنَكَبَ عَنْ
    أَحَدِ وَجْهَيِ التَّقْسِيمِ مُجَانَبَةً لِلتَّزْكِيَةِ الَّتِي لَا يُنَاسِبُ
    ذِكْرُهَا فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَحَاصِلُهُ أَنَّ
    الْجُمْلَةَ الْمَحْذُوفَةَ تُشْعِرُ بِالْقُرْبَةِ الْمَحْضَةِ، وَالْجُمْلَةَ
    الْمُبْقَاةَ تَحْتَمِلُ التَّرَدُّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا قَصَدَهُ يُحَصِّلُ
    الْقُرْبَةَ أَوْ لَا، فَلَمَّا كَانَ الْمُصَنِّفُ كَالْمُخْبِرِ عَنْ حَالِ
    نَفْسِهِ فِي تَصْنِيفِهِ هَذَا بِعِبَارَةِ هَذَا الْحَدِيثِ حَذَفَ الْجُمْلَةَ
    الْمُشْعِرَةَ بِالْقُرْبَةِ الْمَحْضَةِ فِرَارًا مِنَ التَّزْكِيَةِ، وَبَقِيتِ
    الْجُمْلَةُ الْمُتَرَدِّدَةُ الْمُحْتَمِلَةُ تَفْوِيضًا لِلْأَمْرِ إِلَى رَبِّهِ
    الْمُطَّلِعِ عَلَى سَرِيرَتِهِ الْمُجَازِي لَهُ بِمُقْتَضَى نِيَّتِهِ. وَلَمَّا
    كَانَتْ عَادَةُ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يُضَمِّنُوا الْخُطَبَ اصْطِلَاحَهُمْ فِي
    مَذَاهِبِهِمْ وَاخْتِيَارَاتِهِمْ، وَكَانَ مِنْ رَأْيِ الْمُصَنِّفِ جَوَازُ
    اخْتِصَارِ الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى وَالتَّدْقِيقُ فِي
    الِاسْتِنْبَاطِ وَإِيثَارُ الْأَغْمَضِ عَلَى الْأَجْلَى وَتَرْجِيحُ الْإِسْنَادِ
    الْوَارِدِ بِالصِّيَغِ الْمُصَرِّحَةِ بِالسَّمَاعِ عَلَى غَيْرِهِ، اسْتَعْمَلَ
    جَمِيعَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِعِبَارَةِ هَذَا الْحَدِيثِ مَتْنًا
    وَإِسْنَادًا. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فِي بَابِ
    الْهِجْرَةِ تَأَخُّرُ قَوْلِهِ " {فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ
    وَرَسُولِهِ}([39])
    " عَنْ قَوْلِهِ " {فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا}([40])
    "، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ وَقَعَتْ عِنْدَ
    الْبُخَارِيِّ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْمَحْذُوفَةُ هِيَ الْأَخِيرَةَ
    كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ. وَعَلَى
    تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ فَهُوَ مُصَيَّرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى
    جَوَازِ الِاخْتِصَارِ فِي الْحَدِيثِ وَلَوْ مِنْ أَثْنَائِهِ. وَهَذَا هُوَ
    الرَّاجِحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَيْرِ هَذَا
    الْمَوْضِعِ: إِنْ كَانَ الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَامًّا لِمَ خَرَمَهُ
    فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّ الْخَرْمَ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ ؟ قُلْتُ:
    لَا جَزْمَ بِالْخَرْمِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَاتِ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَعَلَّهُ - فِي
    مَقَامِ بَيَانِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالنِّيَّةِ وَاعْتِقَادِ الْقَلْبِ - سَمِعَ
    الْحَدِيثَ تَامًّا، وَفِي مَقَامِ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الجزء الأول الْأَعْمَالِ
    إِنَّمَا يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ سَمِعَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي رُوِيَ. ثُمَّ
    الْخَرْمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ لَا مِنْهُ،
    ثُمَّ إِنْ كَانَ مِنْهُ فَخَرْمُهُ ثَمَّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَتِمُّ بِذَلِكَ
    الْمِقْدَارِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَانَ الْمُنَاسِبَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدِ الْخَرْمِ
    الشِّقَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَقْصُودِهِ، وَهُوَ أَنَّ النِّيَّةَ يَنْبَغِي
    أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ نَظَرَ إِلَى مَا هُوَ
    الْغَالِبُ الْكَثِيرُ بَيْنَ النَّاسِ، انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ
    يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ
    عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا سِيَّمَا كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ فِي
    مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ إِيرَادَ الْحَدِيثِ تَامًّا تَارَةً وَغَيْرَ تَامٍّ
    تَارَةً إِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ رَوَى مَا
    سَمِعَهُ فَلَا خَرْمَ مِنْ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ الْبُخَارِيَّ يَذْكُرُهَا فِي
    الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُنَاسِبُ كُلًّا مِنْهَا بِحَسَبِ الْبَابِ الَّذِي يَضَعُهُ
    تَرْجَمَةً لَهُ، انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ
    الْبُخَارِيُّ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ مِنِ ابْتِدَائِهِ إِلَى انْتِهَائِهِ فَسَاقَهُ
    فِي مَوْضِعٍ تَامًّا وَفِي مَوْضِعٍ مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِهِ، وَهُوَ كَثِيرٌ
    جِدًّا فِي الْجَامِعِ الصَّحِيحِ، فَلَا يَرْتَابُ مَنْ يَكُونُ الْحَدِيثُ
    صِنَاعَتَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِهِ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ
    مِنْ صَنِيعِهِ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ فِي مَوْضِعٍ عَلَى
    وَجْهَيْنِ، بَلْ إِنْ كَانَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَدٍ عَلَى شَرْطِهِ ذَكَرَهُ
    فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي بِالسَّنَدِ الثَّانِي وَهَكَذَا مَا بَعْدَهُ، وَمَا
    لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ يُعَلِّقُهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ تَارَةً
    بِالْجَزْمِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا وَتَارَةً بِغَيْرِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ،
    وَمَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا سَنَدٌ وَاحِدٌ يَتَصَرَّفُ فِي مَتْنِهِ بِالِاقْتِصَارِ
    عَلَى بَعْضِهِ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ
    مَذْكُورٌ بِتَمَامِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ إِلَّا
    نَادِرًا، فَقَدْ عَنِيَ بَعْضُ مَنْ لَقِيتُهُ بِتَتَبُّعِ ذَلِكَ فَحَصَّلَ
    مِنْهُ نَحْوَ عِشْرِينَ مَوْضِعًا.


    قَوْلُهُ: ( هِجْرَتُهُ ) الْهِجْرَةُ: التَّرْكُ، وَالْهِجْرَةُ إِلَى
    الشَّيْءِ: الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَفِي الشَّرْعِ: تَرْكُ مَا
    نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ الهجرة :
    الْأَوَّلُ الِانْتِقَالُ مِنْ دَارِ الْخَوْفِ إِلَى دَارِ الْأَمْنِ كَمَا فِي
    هِجْرَتَيِ الْحَبَشَةِ وَابْتِدَاءِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ،
    الثَّانِي الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِيمَانِ وَذَلِكَ
    بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ النَّبِيُّ
    r بِالْمَدِينَةِ وَهَاجَرَ إِلَيْهِ مَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنَ
    الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ إِذْ ذَاكَ تَخْتَصُّ بِالِانْتِقَالِ إِلَى
    الْمَدِينَةِ، إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ فَانْقَطَعَ مِنَ الِاخْتِصَاصِ،
    وَبَقِيَ عُمُومُ الِانْتِقَالِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ
    بَاقِيًا. فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ تَغَايُرُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلَا يُقَالُ
    مَثَلًا: مَنْ أَطَاعَ أَطَاعَ وَإِنَّمَا يُقَالُ مَثَلًا: مَنْ أَطَاعَ نَجَا،
    وَقَدْ وَقَعَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُتَّحِدَيْنِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ
    التَّغَايُرَ يَقَعُ تَارَةً بِاللَّفْظِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَتَارَةً
    بِالْمَعْنَى وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ
    تَعَالَى {
    `tBur z>$s? Ÿ@ÏJtãur $[sÎ=»|¹ ¼çm¯RÎ*sù ÛUqçGtƒ n<Î) «!$# $\/$tGtB ÇÐÊÈ}([41])
    وَهُوَ مُؤَوَّلٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْهُودِ الْمُسْتَقِرِّ فِي النَّفْسِ،
    كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ أَنَا. أَيِ: الصَّدِيقُ الْخَالِصُ، وَقَوْلُهُمْ: هُمْ
    هُمْ. أَيِ: الَّذِينَ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُمْ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَهُوَ
    مُؤَوَّلٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْهُودِ الْمُسْتَقِرِّ فِي النَّفْسِ،
    كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ أَنَا. أَيِ: الصَّدِيقُ الْخَالِصُ، وَقَوْلُهُمْ: هُمْ
    هُمْ. أَيِ: الَّذِينَ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُمْ،
    الشيخ الداودي
    الشيخ الداودي
    راقي ومعالج
    راقي ومعالج


    عدد الرسائل : 1046
    ذكر

    تاريخ التسجيل : 20/07/2008
    نقاط : 1858

    iqrae رد: فتح الباري شرح صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ

    مُساهمة من طرف الشيخ الداودي الخميس 30 يونيو 2011 - 3:29


    أَوْ
    هُوَ مُؤَوَّلٌ عَلَى إِقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ لِاشْتِهَارِ
    السَّبَبِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: قَدْ يُقْصَدُ بِالْخَبَرِ الْفَرْدِ بَيَانُ
    الشُّهْرَةِ وَعَدَمِ التَّغَيُّرِ فَيَتَّحِدُ بِالْمُبْتَدَأِ لَفْظًا كَقَوْلِ
    الشَّاعِرِ: خَلِيلِي خَلِيلِي دُونَ رَيْبٍ وَرُبَّمَا أَلَانَ امْرُؤٌ قَوْلًا
    فَظُنَّ خَلِيلًا وَقَدْ يُفْعَلُ مِثْلُ هَذَا بِجَوَابِ الشَّرْطِ كَقَوْلِكَ:
    مَنْ قَصَدَنِي فَقَدْ قَصَدَنِي. أَيْ: فَقَدْ قَصَدَ مَنْ عُرِفَ بِإِنْجَاحِ
    قَاصِدِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذَا اتَّحَدَ لَفْظُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ
    وَالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ عُلِمَ مِنْهُمَا الْمُبَالَغَةُ إِمَّا فِي التَّعْظِيمِ
    وَإِمَّا فِي التَّحْقِيرِ.


    قَوْلُهُ: ( إِلَى دُنْيَا ) بِضَمِّ الدَّالِ، وَحَكَى ابْنُ
    قُتَيْبَةَ كَسْرَهَا، وَهِيَ فُعْلَى مِنَ الدُّنُوِّ أَيِ: الْقُرْبِ، سُمِّيَتْ
    بِذَلِكَ لِسَبْقِهَا لِلْأُخْرَى. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ دُنْيَا لِدُنُوِّهَا إِلَى
    الزَّوَالِ. وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَتِهَا فَقِيلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
    الْهَوَاءِ وَالْجَوِّ، وَقِيلَ كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجَوَاهِرِ
    وَالْأَعْرَاضِ، وَالْأُولَى أَوْلَى. لَكِنْ يُزَادُ فِيهِ مِمَّا قَبْلَ قِيَامِ
    السَّاعَةِ، الجزء الأول وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مَجَازًا. ثُمَّ
    إِنَّ لَفْظَهَا مَقْصُورٌ غَيْرُ مُنَوَّنٍ، وَحُكِيَ تَنْوِينُهَا، وَعَزَاهُ
    ابْنُ دِحْيَةَ إِلَى رِوَايَةِ أَبِي الْهَيْثَمِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَضَعَّفَهَا،
    وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مُغَاوِرٍ أَنَّ أَبَا الْهَرَوِيِّ فِي آخِرِ أَمْرِهِ كَانَ
    يَحْذِفُ كَثِيرًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْهَيْثَمِ حَيْثُ يَنْفَرِدُ؛ لِأَنَّهُ
    لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ،
    فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْهَيْثَمِ مَوَاضِعَ كَثِيرَةً أَصْوَبَ مِنْ
    رِوَايَةِ غَيْرِهِ، كَمَا سَيَأْتِي مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعِهِ. وَقَالَ
    التَّيْمِيُّ فِي شَرْحِهِ: قَوْلُهُ " دُنْيَا " هُوَ تَأْنِيثُ الْأَدْنَى لَيْسَ
    بِمَصْرُوفٍ، لِاجْتِمَاعِ الْوَصْفِيَّةِ وَلُزُومِ حَرْفِ التَّأْنِيثِ.
    وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ لُزُومَ التَّأْنِيثِ لِلْأَلِفِ الْمَقْصُورَةِ كَافٍ فِي
    عَدَمِ الصَّرْفِ، وَأَمَّا الْوَصْفِيَّةُ فَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: اسْتِعْمَالُ
    دُنْيَا مُنَكَّرًا فِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّهَا فِعْلُ التَّفْضِيلِ، فَكَانَ مِنْ
    حَقِّهَا أَنْ تُسْتَعْمَلَ بِاللَّامِ كَالْكُبْرَى وَالْحُسْنَى، قَالَ: إِلَّا
    أَنَّهَا خُلِعَتْ عَنْهَا الْوَصْفِيَّةُ أَوْ أُجْرِيَتْ مَجْرَى مَا لَمْ يَكُنْ
    وَصْفًا قَطُّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ابْنُ مَالِكٍ: اسْتِعْمَالُ دُنْيَا
    مُنَكَّرًا فِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّهَا فِعْلُ التَّفْضِيلِ، فَكَانَ مِنْ
    حَقِّهَا أَنْ تُسْتَعْمَلَ بِاللَّامِ كَالْكُبْرَى وَالْحُسْنَى، قَالَ: إِلَّا
    أَنَّهَا خُلِعَتْ عَنْهَا الْوَصْفِيَّةُ أَوْ أُجْرِيَتْ مَجْرَى مَا لَمْ يَكُنْ
    وَصْفًا قَطُّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:


    وَإِنْ
    دَعَوْتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ يَوْمًا سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا








    وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ " إِلَى " يَتَعَلَّقُ بِالْهِجْرَةِ
    إِنْ كَانَ لَفْظُ كَانَتْ تَامَّةً، أَوْ هُوَ خَبَرٌ لِكَانَتْ إِنْ كَانَتْ
    نَاقِصَةً. ثُمَّ أَوْرَدَ مَا مُحَصَّلُهُ: أَنَّ لَفْظَ كَانَ إِنْ كَانَ
    لِلْأَمْرِ الْمَاضِي فَلَا يُعْلَمُ مَا الْحُكْمُ بَعْدَ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ
    فِي ذَلِكَ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ كَانَ الْوُجُودُ
    مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ، أَوْ يُقَاسُ الْمُسْتَقْبَلُ عَلَى الْمَاضِي،
    أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حُكْمَ الْمُكَلَّفِينَ سَوَاءٌ.


    قَوْلُهُ: ( يُصِيبُهَا ) أَيْ يُحَصِّلُهَا؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَهَا
    كَإِصَابَةِ الْغَرَضِ بِالسَّهْمِ بِجَامِعِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ.


    قَوْلُهُ: ( أَوِ امْرَأَةٍ ) قِيلَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا مِنَ
    الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ
    بِأَنَّ لَفْظَ دُنْيَا نَكِرَةٌ وَهِيَ لَا تَعُمُّ فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا
    يَلْزَمُ دُخُولُ الْمَرْأَةِ فِيهَا. وَتُعُقِّبَ بِكَوْنِهَا فِي سِيَاقِ
    الشَّرْطِ فَتَعُمُّ، وَنُكْتَةُ الِاهْتِمَامِ الزِّيَادَةُ فِي التَّحْذِيرِ؛
    لِأَنَّ الِافْتِتَانَ بِهَا أَشَدُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَمَّنْ حَكَى
    أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ قِصَّةُ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ وَلَمْ نَقِفْ عَلَى
    تَسْمِيَتِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ دِحْيَةَ أَنَّ اسْمَهَا قَيْلَةُ بِقَافٍ
    مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ ابْنِ
    سِرَاجٍ أَنَّ السَّبَبَ فِي تَخْصِيصِ الْمَرْأَةِ بِالذِّكْرِ أَنَّ الْعَرَبَ
    كَانُوا لَا يُزَوِّجُونَ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ، وَيُرَاعُونَ الْكَفَاءَةَ
    فِي النَّسَبِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَوَّى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي
    مُنَاكَحَتِهِمْ فَهَاجَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَزَوَّجَ
    بِهَا مَنْ كَانَ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ، انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ إِلَى
    نَقْلٍ ثَابِتٍ أَنَّ هَذَا الْمُهَاجِرَ كَانَ مَوْلًى وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ
    عَرَبِيَّةً، وَلَيْسَ مَا نَفَاهُ عَنِ الْعَرَبِ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلْ قَدْ
    زَوَّجَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ جَمَاعَةً مِنْ مَوَالِيهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ
    قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَإِطْلَاقُهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ الْكَفَاءَةَ فِي
    مَقَامِ الْمَنْعِ.


    قَوْلُهُ: ( فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ) يُحْتَمَلُ أَنْ
    يَكُونَ ذَكَرَهُ بِالضَّمِيرِ لِيَتَنَاوَلَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَرْأَةِ
    وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا أَبْرَزَ الضَّمِيرَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا
    وَهِيَ الْمَحْذُوفَةُ لِقَصْدِ الِالْتِذَاذِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
    وَعِظَمِ شَأْنِهِمَا، بِخِلَافِ الدُّنْيَا وَالْمَرْأَةِ فَإِنَّ السِّيَاقَ
    يُشْعِرُ بِالْحَثِّ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ:
    يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ " مُتَعَلِّقًا
    بِالْهِجْرَةِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ قَبِيحَةٌ أَوْ
    غَيْرُ صَحِيحَةٍ مَثَلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ فَهِجْرَتُهُ
    وَالْجُمْلَةُ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ " مَنْ كَانَتْ "، انْتَهَى.
    وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الرَّاجِحُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ
    الْهِجْرَةَ مَذْمُومَةٌ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى
    تَقْدِيرِ شَيْءٍ يَقْتَضِي التَّرَدُّدَ أَوِ الْقُصُورَ عَنِ الْهِجْرَةِ
    الْخَالِصَةِ كَمَنْ نَوَى بِهِجْرَتِهِ مُفَارَقَةَ دَارِ الْكُفْرِ وَتَزَوُّجَ
    الْمَرْأَةِ مَعًا فَلَا تَكُونُ قَبِيحَةً وَلَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ، بَلْ هِيَ
    نَاقِصَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ خَالِصَةً، وَإِنَّمَا
    أَشْعَرَ السِّيَاقُ بِذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ طَلَبَ
    الجزء الأول الْمَرْأَةَ بِصُورَةِ الْهِجْرَةِ الْخَالِصَةِ، فَأَمَّا مَنْ
    طَلَبَهَا مَضْمُومَةً إِلَى الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى قَصْدِ
    الْهِجْرَةِ لَكِنْ دُونَ ثَوَابِ مَنْ أَخْلَصَ، وَكَذَا مَنْ طَلَبَ التَّزْوِيجَ
    فَقَطْ لَا عَلَى صُورَةِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ
    الْمُبَاحِ الَّذِي قَدْ يُثَابُ فَاعِلُهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْقُرْبَةَ
    كَالْإِعْفَافِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ أَبِي
    طَلْحَةَ فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ أَبُو
    طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَكَانَ صَدَاقُ مَا بَيْنَهُمَا الْإِسْلَامُ، أَسْلَمَتْ
    أُمُّ سُلَيْمٍ قَبْلَ أَبِي طَلْحَةَ فَخَطَبَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ
    أَسْلَمْتُ، فَإِنْ أَسْلَمْتَ تَزَوَّجْتُكَ. فَأَسْلَمَ فَتَزَوَّجَتْهُ. وَهُوَ
    مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَغِبَ فِي الْإِسْلَامِ وَدَخَلَهُ مِنْ وَجْهِهِ وَضَمَّ
    إِلَى ذَلِكَ إِرَادَةَ التَّزْوِيجِ الْمُبَاحِ فَصَارَ كَمَنْ نَوَى بِصَوْمِهِ
    الْعِبَادَةَ وَالْحِمْيَةَ، أَوْ بِطَوَافِهِ الْعِبَادَةَ وَمُلَازَمَةَ
    الْغَرِيمِ. وَاخْتَارَ الْغَزَّالِيُّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ أَنَّهُ
    إِنْ كَانَ الْقَصْدُ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الْأَغْلَبَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجْرٌ،
    أَوِ الدِّينِيُّ أُجِرَ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَتَرَدَّدَ الْقَصْدُ
    بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَلَا أَجْرَ. وَأَمَّا إِذَا نَوَى الْعِبَادَةَ
    وَخَالَطَهَا بِشَيْءٍ مِمَّا يُغَايِرُ الْإِخْلَاصَ فَقَدْ نَقَلَ أَبُو جَعْفَرِ
    بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ
    بِالِابْتِدَاءِ، فَإِنْ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ لِلَّهِ خَالِصًا لَمْ يَضُرَّهُ مَا
    عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ إِعْجَابٍ أَوْ غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى
    الْعَمَلِ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ
    مُنْتَفِيًا إِذَا خَلَا عَنِ النِّيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ فِعْلِ الشَّيْءِ
    إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَعَلَى أَنَّ الْغَافِلَ لَا تَكْلِيفَ
    عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالْمَقْصُودِ وَالْغَافِلُ
    غَيْرُ قَاصِدٍ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ
    أَنْ لَا يُحْسَبَ لَهُ إِلَّا مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى
    الْحَدِيثِ، لَكِنْ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِانْعِطَافِهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ،
    وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ " {مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ
    أَدْرَكَهَا}([42])
    " أَيْ: أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ أَوِ الْوَقْتَ، وَذَلِكَ بِالِانْعِطَافِ
    الَّذِي اقْتَضَاهُ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ الثِّقَةَ
    إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ جَمَاعَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ شَيْئًا
    لَا يُمْكِنُ غَفْلَتُهُمْ عَنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا
    يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِ، خِلَافًا لِمَنْ أُعِلَّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلْقَمَةَ
    ذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ لَمْ يَصِحَّ مِنْ جِهَةِ
    أَحَدٍ عَنْهُ غَيْرِ عَلْقَمَةَ. وَاسْتُدِلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ مَا
    لَيْسَ بِعَمَلٍ لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِيهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ جَمْعُ
    التَّقْدِيمِ فَإِنَّ الرَّاجِحَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ
    لَهُ نِيَّةٌ، بِخِلَافِ مَا رَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَخَالَفَهُمْ
    شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقَالَ: الْجَمْعُ لَيْسَ بِعَمَلٍ، وَإِنَّمَا
    الْعَمَلُ الصَّلَاةُ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
    جَمَعَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَلَمْ يَذْكُرَ ذَلِكَ لِلْمَأْمُومِينَ الَّذِينَ
    مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَأَعْلَمَهُمْ بِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ
    الْعَمَلَ إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَى سَبَبٍ وَيَجْمَعُ مُتَعَدِّدَهُ جِنْسٌ
    أَنَّ نِيَّةَ الْجِنْسِ تَكْفِي، كَمَنْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَةٍ وَلَمْ
    يُعَيِّنْ كَوْنَهَا عَنْ ظِهَارٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ
    الْأَعْمَالَ بِنِيَّاتِهَا، وَالْعَمَلُ هُنَا الْقِيَامُ بِالَّذِي يَخْرَجُ عَنِ
    الْكَفَّارَةِ اللَّازِمَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُحْوِجٍ إِلَى تَعْيِينِ سَبَبٍ،
    وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ - وَشَكَّ فِي سَبَبِهَا -
    أَجْزَأَهُ إِخْرَاجُهَا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ. وَفِيهِ زِيَادَةُ النَّصِّ عَلَى
    السَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ فِي قِصَّةِ الْمُهَاجِرِ لِتَزْوِيجِ
    الْمَرْأَةِ، فَذِكْرُ الدُّنْيَا فِي الْقِصَّةِ زِيَادَةٌ فِي التَّحْذِيرِ
    وَالتَّنْفِيرِ. وَقَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فِيهِ إِطْلَاقُ الْعَامِّ
    وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ خَاصًّا، فَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ
    الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ
    كَثِيرٍ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ حَيْثُ قَالَ
    الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ فَدَخَلَ فِيهِ الْعِبَادَاتُ وَالْأَحْكَامُ إِنْ
    شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

      مواضيع مماثلة

      -

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين 20 مايو 2024 - 22:04