سنن الصلاة
للصلاة سنن ، يستحب للمصلي أن يحافظ عليها لينال
ثوابها . نذكرها فيما يلي :
( 1 ) رفع اليدين :
يستحب
أن يرفع يديه في أربع حالات :
الاولى ، عند تكبيرة الاحرام . قال
ابن المنذر : لم يختلف أهل العلم في أنه صلى الله عليه وسلم ، كان يرفع يديه إذا
افتتح الصلاة . وقال الحافظ ابن حجر : إنه روى رفع اليدين في أول الصلاة خمسون
صحابيا ، منهم العشرة المشهود لهم بالجنة . وروى البيهقي عن الحاكم قال : لا نعلم
سنة اتفق على روايتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الاربعة ، ثم العشرة
المشهود لهم بالجنة فمن بعدهم من أصحابه ، مع تفرقهم في البلاد التاسعة ، غير هذه
السنة . قال البيهقي : هو كما قال أستاذنا أبو عبد الله . صفة الرفع : ورد في صفة
رفع اليدين روايات متعددة . والمختار الذي عليه الجماهير ، أنه يرفع يديه حذو
منكبيه ، بحيث تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه ، وإبهاماه شحمتي أذكيه ، وراحتاه
منكبيه . قال النووي : وبهذا جمع الشافعي بين روايات الاحاديث فاستحسن الناس ذلك
منه . ويستحب أن يمد أصابعه وقت الرفع . فعن أبي هريرة قال : كان النبي صلى الله
عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا . رواه الخمسة إلا ابن ماجة . وقت الرفع
: ينبغي أن يكون رفع اليدين مقارنا لتكبيرة الاحرام أو متقدما عليها . فعن نافع :
أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه ، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم . رواه
البخاري والنسائي وأبو داود . وعنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه
حين يكبر حتى يكونا حذو منكبيه أو قريبا من ذلك . الحديث رواه أحمد وغيره . وأما
تقدم رفع اليدين على كبيرة الاحرام فقد جاء عن ابن عمر قال : كان النبي صلى الله
عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه ثم يكبر ، رواه
البخاري ومسلم . وقد جاء في حديث مالك بن الحويرث بلفظ : ( كبر ثم رفع يديه ) رواه
مسلم . وهذا يقيه تقدم التكبيرة على رفع اليدين ، ولكن الحافظ قال : لم أر من قال
بتقديم التكبيرة على الرفع .
الثانية والثالثة
:
ويستحب رفع اليدين عند الركوع والرفع منه . وقد روى اثنان وعشرون صحابيا : أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو ( 1 ) منكبيه ثم
يكبر ، فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك ، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ،
وقال : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد . رواه البخاري ومسلم والبيهقي . وللبخاري
: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود . ولمسلم : ولا يفعله حين
يرفع رأسه من السجود ، وله أيضا : ولاى رفعهما بين السجدتين : وزاد البيهقي : فما
زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى . قال ابن المدايني : هذا الحديث عندي حجة على
الخلق . كل من سمعه فعليه أن يعمل به ، لانه ليس في إسناده شئ ، وقد صنف البخاري في
هذه المسألة جزءا مفردا ، وحكى فيه عن الحسن وحميد بن هلال : أن الصحابة كانوا
يفعلون ذلك ، يعني الرفع في الثلاثة المواطن ، ولم يستثن الحسن أحدا . وأما ما ذهب
إليه الحنفية ، من أن الرفع لا يشرع إلا عند تكبيرة الاحرام استدلالا بحديث ابن
مسعود أنه قال : لاصلين لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى فلم يرفع
يديه إلا مرة واحدة ، فهو مذهب غير قوي ، لان هذا قد طعن فيه كثير من أئمة الحديث .
قال ابن حبان هذا أحسن .
( 1 )
حذو منكبيه أي مساوية لمنكبيه تماما . ( . )
خبر . روى أهل الكوفة في نفي رفع اليدين في
الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه ، وهو في الحقيقة أضعف شئ يعول عليه ، لان له
عللا تبطله ، وعلى فرض التسليم بصحته ، كما صرح بذلك الترمذي ، فلا يعارض الاحاديث
الصحيحة التي بلغت حد الشهرة . وجوز صاحب التنقيح أن يكون ابن مسعود نسي الرفع كما
نسي غيره . قال الزيلعي في نصب الراية - نقلا عن صاحب التنقيح - : ليس في نسيان ابن
مسعود لذلك ما يستغرب : فقد نسي ابن مسعود من القرآن ما لم يختلف فيه المسلمون بعد
، وهما المعوذتان ، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه ، كالتطبيق ، ونسي كيف قيام
الاثنين خلف الامام ، ونسي ما لا يختلف العلماء فيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى الصبح يوم النحر في وقتها ونسي كيفية جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ،
ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الارض في السجود ، ونسي
كيف يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم ( وما خلق الذكر والانثى ) وإذا جاز على ابن
مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة ، كيف لا يجوز أن ينسى مثله في رفع اليدين ؟ الرابعة عند القيام إلى الركعة الثالثة : فعن نافع عن
ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان إذا قام من الركعتين رفع يديه ورفع ذلك ابن عمر
إلى النبي صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري وأبو داود والنسائي . وعن علي في وصف
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا قام من السجدتين رفع يديه حذو منكبيه
وكبر . رواه أبو داود وأحمد والترمذي وصححه : والمراد بالسجدتين الركعتان . مساواة
المرأة بالرجل في هذه السنة : قال الشوكاني : واعلم أن هذه السنة يشترك فيها الرجال
والنساء ، ولم يرد ما يدل على الفرق بينهما فيها ، وكذا لم يرد ما يدل على الفرق
بين الرجل والمرأة في مقدار الرفع .
( 2 ) وضع اليمين على
الشمال : يندب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة . وقد ورد في ذلك عشرون
حديثا ، عن ثمانية عشر صحابيا وتابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن سهل ابن
سعد قال : كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ،
قال أبو حازم : لا أعلم أنه ينمى ( 1 ) ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
رواه البخاري وأحمد ومالك في الموطأ . قال الحافظ : وهذا حكمه الرفع ، لانه محمول
على أن الامر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال : ( إنا معشر الانبياء أمرنا بتعجيل فطرنا وتأخير سحورنا ، ووضع أيماننا على
شمائلنا في الصلاة ) . وعن جابر قال : ( مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وهو
يصلي ، وقد وضع يده اليسرى على اليمنى فانتزعها ، ووضع اليمنى على اليسرى ) رواه
أحمد وغيره ، قاله النووي : إسناده صحيح . وقال ابن عبد البر : لم يأت فيه عن النبي
صلى الله عليه وسلم خلاف ، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين وذكره مالك في الموطأ
وقال : لم يزل مالك يقبض حتى لقي الله عزوجل .
( 1 ) (
ينمي ) : يرفع . ( . )
موضع وضع اليدين
: قال الكمال بن الهمام . ولم يثبت حديث صحيح يوجب العمل في كون الوضع
تحت الصدر ، وفي كونه تحت السرة ، والمعهود عند الحنفية هو كونه تحت السرة وعند
الشافعية تحت الصدر . وعن أحمد قولان كالمذهبين ، والتحقيق المساواة بينهما . وقال
الترمذي : أن أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم
يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة ، ورأى بعضهم فوق السرة ، ورأى بعضهم
أن يضعها تحت السرة ، وكل ذلك واقع عندهم . انتهى . ولكن قد جاءت روايات تفيد أنه
صلى الله عليه وسلم ، كان يضع يديه على صدره ، فعن هلب الطائي قال : رأيت النبي صلى
الله عليه وسلم يضع اليمنى على اليسرى على صدره فوق المفصل ، رواه أحمد ، وحسنه
الترمذي . وعن وائل بن حجر قال : ( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده
اليمنى على يده اليسرى على صدره ) رواه ابن خزيمة وصححه ورواه أبو داود والنسائي
بلفظ : ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ ( 1 ) والساعد . أي أنه وضع
يده اليمنى على ظهر اليسرى ورصغها وساعدها .
( 1 ) (
الرسغ ) : المفصل بين الساعد والكف . ( . )
( 3 ) التوجه أو دعاء
الاستفتاح : يندب للمصلي أن يأتي بأي دعاء من الادعية التي كان يدعو بها النبي صلى
الله عليه وسلم ويستفتح بها الصلاة ، بعد تكبيرة الاحرام وقبل القراءة . ونحن نذكر
بعضها فيما يلي :
1 - عن أبي هريرة قال : كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة ( 2 ) قبل القراءة فقلت
: يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، أرأيت
سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول ؟ قال : أقول : ( اللهم باعد بيني
وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، أللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب
الابيض من الدنس ، أللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد . ) رواه البخاري
ومسلم وأصحاب السنن . إلا الترمذي .
2 - وعن علي قال : كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثم قال : ( وجهت وجهي للذي فطر السموات
والارض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب
العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين : أللهم أنت الملك لا إله إلا
أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا ، إنه لا
يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لاحسن الاخلاق ، لا يهدي لاحسنها إلا أنت ، واصرف عني
سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ، لبيك وسعديك ( 3 ) ، والخير كله في يديك ، والشر
ليس إليك ، وأنا بك وإليك تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك . ) رواه أحمد ومسلم
( هامش ) ( 2 ) وقتا قصيرا . ( 3 ) ( لبيك ) : هو
من ألب بالمكان إذا أقام به ، أي أجبك إجابة بعد إجابة ، قال النووي قال العلماء :
ومعناه أنا مقيم على طاعتك اقامة بعد إقامة ( سعديك ) قال الازهري وغيره : معناه
مساعدة لامرك بعد مساعدة ، ومتابعة لدينك بعد متابعة ، ( الشر ليس اليك ) : أي لا
يتقرب به اليك أو لا يضاف اليك تأدبا ، أو لا يصعد إليك ، أو أنه ليس شرا بالنسبة
إليك فانما خلقته لحكمة بالغة ، وانما هو شر بالنسبة للمخلوقين .
والترمذي وأبو داود وغيرهم .
3 - وعن عمر : أنه كان يقول بعد
تكبيرة الاحرام : ( سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدك ( 1 ) ، ولا إله
غيرك ) رواه مسلم بسند منقطع . والدار قطني موصولا وموقوفا على عمر . قال ابن القيم
: صح عن عمر أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجهر به ويعلمه
الناس ، وهو بهذا الوجه في حكم المرفوع ، ولذا قال الامام أحمد : أما أنا فأذهب إلى
ما روي عن عمر ، ولو أن رجلا استفتح ببعض ما روي كان حسنا .
4 - وعن عاصم بن حميد قال :
سألت عائشة بأي شئ كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل ؟ فقالت لقد
سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد قبلك ، كان إذا قام كبر عشرا ( 2 ) وحمد الله عشرا ،
وسبح الله عشرا ، وهلل عشرا ، واستغفر عشرا وقال : ( اللهم اغفر لي واهدني وارزقني
وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة ) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه
.
5 - وعن عبد الرحمن بن عوف قال
: سألت عائشة ، بأي شئ كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من
الليل ؟ قالت : كان إذا قام من الليل يفتتح صلاته : ( أللهم رب جبريل وميكائيل
وإسرافيل ، فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما
كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك : إنك تهدي من تشاء إلى
صراط مستقيم ) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه
.
6 - وعن نافع بن جبير بن مطعم
عن أبيه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في التطوع : الله أكبر
كبيرا ، ثلاث مرات ، والحمد لله كثيرا ، ثلاث مرات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ،
ثلاث مرات . اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفثه ونفخه ) قلت : يا
رسول الله
( 1 )
ومعنى ( تعالى جدك ) علا جلالك وعظمتك . ( 2 ) كان إذا قام كبر عشرا : أي بعد
تكبيرة الاحرام .
ما همزه ونفثه ونفخه ؟ قال : أما همزة فالموتة (
1 ) التي تأخذ بني آدم ، أما نفخه : الكثير ، ونفثه : الشعر ) رواه أحمد وأبو داود
وابن ماجه وابن حبان مختصرا .
7 - وعن ابن عباس قال : كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال : ( اللهم لك الحمد أنت قيم
السموات والارض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت نور السموات والارض ومن فيهن ، ولك الحمد
أنت مالك السموات والارض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت الحق ووعدك الحق ، ولقاؤك حق ،
وقولك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ومحمد حق ، والساعة حق . أللهم لك
أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت فاغفر لي ما
قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت ،
ولا إله غيرك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجه ومالك . وفي أبي داود عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، كان في التهجد يقوله بعدما يقول الله أكبر .
( 1 ) (
المؤتة ) : الصراع . ( . )
8 - الاستعاذة : يندب للمصلي
بعد دعاء الاستفتاح وقبل القراءة ، أن يأتي
بالاستعاذة ، لقول الله تعالى : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من
الشيطان الرجيم ) ( 2 ) . وفي حديث نافع بن جبير المتقدم ، أنه صلى الله عليه وسلم
قال : ( اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ) إلخ . وقال ابن المنذر : جاء عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
) . ( 4 ) الاسرار بها : ويسن الاتيان بها سرا . قال في المغني : ويسر الاستعاذة
ولا يجهر بها ، لا أعلم فيه خلافا . انتهى : لكن الشافعي يرى التخيير بين الجهر بها
والاسرار في الصلاة الجهرية ، وروي عن أبي هريرة الجهر بها عن طريق ضعيف .
( 2 ) أي
إذا أردت القراءة فاستعذ : كقول الله تعالى ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم )
مشروعيتها في الركعة الاولى دون سائر الركعات : ولا تشرع الاستعاذة إلا
في الركعة الاولى . فعن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض
في الركعة الثانية ، افتتح القراءة ب الحمد لله رب العالمين ، ولم يسكت . رواه مسلم
. قال ابن القيم : اختلف الفقهاء ، هل هذا موضع استعاذة أو لا ؟ بعد اتفاقهم على
أنه ليش موضع استفتاح ، وفي ذلك قولان ، هما رواية عن أحمد ، وقد بناهما بعض أصحابه
على أن قراءة الصلاة هل هي قراءة واحدة ، فيكفي فيها استعاذة واحدة ، أو قراءة كل
ركعة مستقلة برأسها ؟ ولا نزاع بينهما في أن الاستفتاح لمجموع الصلاة . والاكتفاء
باستعاذة واحدة أظهر للحديث الصحيح ، وذكر حديث أبي هريرة ثم قال : وإنما يكفي
استفتاح واحد ، لانه لم يتخلل القراءتين سكوت بل تخللهما ذكر ، فهي كالقراءة
الواحدة إذا تخللها حمد الله ، أو تسبيح أو تهليل ، أو صلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم ، ونحو ذلك . وقال الشوكاني : الاحوط الاقتصار على ما وردت به السنة وهو
الاستعاذة قبل قراءة الركعة الاولى فقط .
( 5 ) التأمين
: يسن
لكل مصل ، إماما أو مأموما أو منفردا ، أن يقول آمين ، بعد قراءة الفاتحة ، يجهر
بها في الصلاة الجهرية ، ويسر بها في السرية . فعن نعيم المجمر قال : صليت وراء أبي
هريرة فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قرأ بأم القرآن ، حتى إذا بلغ ( ولا
الضالين ) فقال آمين ، وقال الناس : آمين . ثم يقول أبو هريرة بعد السلام : والذي
نفسي بيده إني لاشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكره البخاري تعليقا (
1 ) ورواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن السراج . وفي البخاري قال ابن شهاب :
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : آمين . وقال عطاء ، آمين دعاء ، أمن ابن
الزبير ومن وراء حتى إن للمسجد للجة ( 2 ) وقال نافع . كان ابن عمر لا يدعه ويحضهم
، وسمعت منه في ذلك خ برا . وعن أبي هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه
( 1 ) أي
من غير ذكر السند . ( 2 ) ( لجة ) : أي صوت مرتفع
وسلم إذا تلا : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين
) قال : آمين ، حتى يسمع من يليه من الصف الاول ، رواه أبو داود وابن ماجه وقال :
حتى يسمعها أهل الصف الاول فيرتج بها المسجد . ورواه أيضا الحاكم وقال : صحيح على
شرطهما ، والبيهقي وقال حسن صحيح . والدار قطني وقال : إسناده حسن . وعن وائل بن
حجر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين
) فقال : آمين ، يمد بها صوته . رواه أحمد وأبو داود ، ولفظه ، رفع بها صوته .
وحسنه الترمذي وقال : وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم والتابعين ومن بعدهم ، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين ولا يخفيها . وقال
الحافظ : سند هذا الحديث صحيح . وقال عطاء : أدركت مائتين من الصحابة في هذا المسجد
، إذا قال الامام : ولا الضالين ، سمعت لهم رجة آمين . وعن عائشة أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ( ما حسدتكم اليهود على شئ ، ما حسدتكم على السلام والتأمين خلف
الامام . ) رواه أحمد وابن ماجة . استحباب موافقة الامام فيه : ويستحب للمأموم أن
يوافق الامام ، فلا يسبقه في التأمين ولا يتأخر عنه فعن أبي هريرة : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قال الامام : غير المغضوب عليهم ولا الضالين ،
فقولوا : آمين ، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) رواه
البخاري . وعنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قال الامام ( غير
المغضوب عليهم ولا الضالين ) فقولوا آمين ( 1 ) فإن الملائكة يقولون : آمين وإن
الامام يقول : آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه )
رواه أحمد وأبو داود والنسائي . وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا
أمن الامام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه )
رواه الجماعة .
( هامش ) ( 1 ) قال الخطابي :
معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا قال الامام ولا الضالين ) فقولوا ( آمين ) :
أي مع الامام ، حتى يقع تأمينكم وتأمينه معا . وأما قوله : ( إذا أمن أمنوا ) فانه
لا يخالفه ولا يدل على أنهم يؤخرونه عن وقت تأمينه ، وإنما هو كقول القائل : إذا
رحل الامير فارحلوا : يعني إذا أخذ الامير في الرحيل فتهيأوا للارتحال ، لتكون
رحلتكم مع رحلته . وبيان هذا في الحديث الاخر ( أن الامام يقول آمين ) إلى آخر
الحديث .
معنى آمين
: ولفط
( آمين ) يقصر ألفه ويمد مع تخفيف الميم ، وليس من الفاتحة ، وإنما دعاه معناه :
اللهم استجب .
( 6 )
القراءة بعد الفاتحة : يسن للمصلي أن يقرا سورة أو
شيئا من القرآن بعد قراءة الفاتحة في ركعتي الصبح والجمعة ، والاوليين من الظهر
والعصر والمغرب والعشاء ، وجميع ركعات النفل . فعن أبي قتادة أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يقرأ في الظهر ، في الاوليين ، بأم الكتاب وسورتين ، وفي الركعتين
الاخريين ، بأم الكتاب ، ويسمعنا الاية أحيانا ، ويطول في الركعة الاولى ما لا يطول
في الثانية . وهكذا في العصر ، وهكذا في الصبح . رواه البخاري ومسلم وأبو داود ،
وزاد : قال : فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الاولى . وقال جابر بن سمرة
: شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر فعزله ، واستعمل عليهم عمارا فشكوا حتى ذكروا أنه لا
يحسن يصلي ، فأرسل إليه فقال : يا أبا إسحق إن هؤلاء يزعمون أنك تصلي ، قال أبو
إسحاق : أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما
أخرم عنها ( 1 ) : أصلي صلاة العشاء فأركد في الاوليين ( 2 ) وأخف في الاخريين قال
: ذاك الظن بك يا أبا إسحق ، فأرسل معه رجلا أو رجالا إلى الكوفة ، فسأل عنه أهل
الكوفة ، ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه ، ويثنون معروفا ، حتى دخل مسجدا لبني عبس ،
فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة ، يكنى أبا سعدة فقال : أما إذا ناشدتنا الله
، فإن سعدا كان لا يسير بالسرية ، ولا يقسم بالسوية ، ولا يعدل في القضية . قال سعد
: أما والله لادعون بثلاث : اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فأطل عمره
، وأطل فقره ، وعرضه للفتن ، وكان بعد يقول : شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد . قال عبد
الملك : فإنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، وإنه ليتعرض للجواري في
الطريق
( 1 ) ( ما أخرم عنها ) : أي أنقص . ( 2 ) ( فأركد
في الاوليين ) أي أطول فيهما القراءة .
يغمزهن . رواه البخاري وقال أبو هريرة : في كل
صلاة يقرأ ، فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم ، وما أخفي عنا
أخفينا عنكم ، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت ، وإن زدت فهو خير ، رواه البخاري .
كيفية القراءة بعد الفاتحة : والقراءة بعد الفاتحة تجوز على أي نحو من الانحاء .
قال الحسين : ( غزونا خراسان ومعنا ثلثمائة من الصحابة فكان الرجل منهم يصلي بنا
فيقرأ الايات من السورة ثم يركع ) . وعن ابن عباس : أنه قرأ الفاتحة وآية من البقرة
في كل ركعة . رواه الدار قطني بإسناد قوي . وقال البخاري : ( باب الجمع بين
السورتين في الركعة والقراءة بالخواتيم وبسورة قبل سورة وبأول سورة ) . ويذكر عن
عبد الله بن السائب : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ( المؤمنون ) في الصبح حتى إذا
ذكر موسى وهارون ، أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع . وقرأ عمر في الركعة الاولى بمائة
وعشرين آية من البقرة ، وفي الثانية بسورة من المثاني . وقرأ الاحنف بالكهف في
الاولى ، وفي الثانية بيونس أو يوسف ، وذكر : أنه صلى مع عمر الصبح بهما ، وقرأ ابن
مسعود بأربعين آية من الانفال وفي الثانية بسورة من المفصل . وقال قتادة فيمن قرأ
سورة واحدة في ركعتين ، أو يردد سورة في ركعتين - : كل كتاب الله . وقال عبد الله
بن ثابت عن أنس : كان رجل من الانصار يؤمهم في مسجد قباء . وكان كلما افتتح سورة
يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به ، افتتح ب ( قل هو الله أحد ) حتى يفرغ منها ،
ثم يقرأ سورة أخرى معها ، وكان يصنع ذلك في كل ركعة . فكلمه أصحابه فقالوا : إنك
تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى ، فإما أن تقرأ بها وإما أن
تدعها وتقرأ بأخرى . فقال : ما أنا بتاركها . إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن
كرهتم تركتكم . وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره . فلما أتاهم النبي
صلى الله عليه وسلم ، أخبروه الخبر فقال : ( يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به
أصحابك ، وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة ؟ فقال : إني أحبها . فقال : (
حبك إياها أدخلك الجنة ) . وعن رجل من جهينة : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم
يقرأ في الصبح : ( إذا زلزلت الارض ) في الركعتين كلتيهما قال : فلا أدري أنسي رسول
الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدا ؟ رواه أبو داود ، وليس في إسناده مطعن .
هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة بعد الفاتحة : نذكر هنا ما لخصه ابن
القيم من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفاتحة ( 1 ) قال : فإذا فرغ من
الفاتحة أخذ في سورة غيرها وكان يطيلها تارة ، ويخففها لعارض من سفر أو غيره ،
ويتوسط فيها غالبا .
( 1 )
العناوين ليست لابن القيم . ( . )
قراءة الفجر
: وكان
يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية . وصلاها بسورة ( ق ) ، وصلاها ب ( الروم
) وصلاها ب ( إذا الشمس كورت ) وصلاها ب ( إذا زلزلت ) في الركعتين كلتيهما ،
وصلاها بالمعوذتين وكان في السفر ، وصلاها فافتتح بسورة ( المؤمنون ) حتى بلغ ذكر
موسى وهارون في الركعة الاولى فأخذته سعلة فركع ، وكان يصليها يوم الجمعة ب ( ألم
تنزيل ( السجدة ) وسورة ( هل أتى على الانسان ) كاملتين ، ولم يفعل ما يفعله كثير
من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه . وأما ما يظنه كثير من الجهال أن صبح
يوم الجمعة فضلت بسجدة ، فجهل عظيم ، ولهذا كره بعض الائمة قراءة سورة ( السجدة )
لاجل هذا الظن . وإنما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين ، لما اشتملتا
عليه من ذكر المبدأ والمعاد ، وخلق آدم ودخول الجنة والنار ، وغير ذلك ، مما كان
ويكون في يوم الجمعة . فكان يقرا في فجرها ، ما كان ويكون في ذلك اليوم ، تذكيرا
للامة بحوادث هذا اليوم ، كما كان يقرأ في المجامع العظام ، كالاعياد والجمعة ،
بسورة ( ق ) و ( اقتربت ) و ( يسبح ) ( 2 ) و ( الغاشية ) .
( 2 ) (
يسبح ) أي سورة الاعلى المبدوءة : ( سبح اسم ربك الاعلى
القراءة في الظهر فكان يطيل قراءتها أحيانا ،
حتى قال أبو سعيد : كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع ، فيقضي حاجته ،
ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الاولى ، مما يطيلها
، رواه مسلم ، وكان يقرأ فيها تارة بقدر ( الم تنزيل ) وتارة ( سبح اسم ربك الاعلى
) ( والليل إذا يغشى ) وتارة ب ( والسماء ذات البروح ) ، ( والسماء والطارق ) .
القراءة في العصر : وأما العصر فعلى النصف من قراءة صلاة الظهر إذا طالت . وبقدرها
إذا قصرت . القراءة في المغرب : وأما المغرب فكان هديه فيها خلاف عمل اليوم ، فإنه
صلاها مرة ب ( الاعراف ) في الركعتين ومرة ب ( الطور ) ومرة ب ( المرسلات ) قال أبو
عمر ابن عبد البر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب ب ( المص )
( الاعراف ) وأنه قرأ فيها ب ( الصافات ) وأنه قرأ فيها ب ( حم ) الدخان ، وأنه قرأ
فيها ب ( سبح اسم ربك الاعلى ) وأنه قرأ فيها ب ( والتين والزيتون ) ، وأنه قرأ
فيها بالمعوذتين وأنه قرأ فيها ب ( المرسلات ) ، وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل .
وقال : وهي كلها آثار صحاح مشهورة ، انتهى كلام ابن عبد البر . وأما المداومة فيها
على قصار المفصل دائما ، فهو فعل مروان بن الحكم ، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت
وقال مالك تقرا في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ
في المغرب بطولى الطوليين ؟ قال قلت : وما طولى الطوليين ؟ قال : الاعراف . وهذا
حديث صحيح ، رواه أهل السنن . وذكر النسائي عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى
الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة ( الاعراف ) فرقها في الركعتين . فالمحافظة
فيها على الاية والسورة من قصار المفصل خلاف السنة ، وهو فعل مروان بن الحكم ،
القراءة في العشاء : وأما العشاء الاخرة : فقرأ فيها صلى الله عليه وسلم ب ( والتين
والزيتون ) ووقت لمعاذ فيها ب ( والشمس وضحاها ) ( وسبح اسم ربك الاعلى ) ( والليل
إذا يغشى ) ونحوها . وأنكر عليه قراءته فيها ( البقرة ) بعد ما صلى معه ، ثم ذهب
إلى بني عمرو ابن عوف فأعادها لهم بعد ما مضى من الليل ما شاء الله ، وقرأ ( البقرة
) ولهذا قال له : ( أفان أنت يا معاذ ؟ ) فتعلق النقادون بهذه الكلمة ، ولميلتفتوا
إلى ما قبلها ولا إلى ما بعدها . القراءة في الجمعة : وأما الجمعة فكان يقرا فيها
بسورة ( الجمعة ) و ( المنافقين ) أو ( الغاشية ) كاملتين وسورة ( سبح ) و (
الغاشية ) . وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من ( يأيها الذين آمنوا ) إلى
آخرها ، فلم يفعله قط . وهو مخالف لهديه الذي كان يحافظ عليه . القراءة في العيدين
: وأما القراءة في الاعياد فتارة يقرأ سورة ( ق ) و ( اقتربت ) كاملتين وتارة سورة
( سبح ) و ( الغاشية ) وهذا هو الهدي الذي استمر عليه إن أن لقي الله عزوجل ، لم
ينسخه شئ ، ولهذا أخذ به خلفاؤه الراشدون من بعده . فقرأ أبو بكر رضي الله عنه في
الفجر سورة ( البقرة ) حتى سلم منها قريبا من طلوع الشمس فقالوا : يا خليفة رسول
الله ، كادت الشمس تطلع ، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين . وكان عمر رضي الله عنه
يقرأ فيها ب ( يوسف ) و ( النحل ) و ( هود ) وبني إسرائيل ، ونحوها من السور . ولو
كان تطويله صلى الله عليه وسلم منسوخا لم يخف على خلفائه الراشدين ويطلع عليه
النقادون . وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة : أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ( ق والقرآن المجيد ) وكانت صلاته بعد تخفيفا
فالمراد بقوله بعد : أي بعد الفجر ، أي أنه كان يطيل قراءة الفجر أكثر من غيرها
وصلاته بعدها تخفيفا . ويدل على ذلك قول أم الفضل وقد سمعت ابن عباس يقرأ (
والمرسلات عرفا ) فقالت : يا بني لقد ذكرتني بقراءة هذه السورة ، إنها لاخر ما سمعت
من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقرأ بها في المغرب ، فهذا في آخر الامر إلى أن
قال : وأما قوله صلى الله عليه وسلم ، يقرأ بها في المغرب ، فهذا في آخر الامر إلى
أن قال : وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( أيكم أم بالناس فليخفف ) وقول أنس : (
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في تمام ) فالتخفيف أمر نسي ،
يرجع إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه ، لا إلى شهوة المأمومين ،
فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمرهم بأمر ثم يخالفه وقد علم أن من ورائه الكبير
والضعيف وذا الحاجة . فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به ، فأنه كان يمكن أن تكون
صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها . وهديه الذي
واظب عليه ، هو الحاكم على كل ما تنازع عليه المتنازعون . ويدل ما رواه النسائي
وغيره عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا ب
( الصافات ) ، فالقراءة ب ( الصافات ) من التخفيف الذي كان يأمر به . قراءة سورة
بعينها : وكان صلى الله عليه وسلم لا يعين سورة في الصلاة بعينها ، لا يقرأ إلا بها
، إلا في الجمعة والعيدين ، وأما في سائر الصلوات فقد ذكر أبو داود ، في حديث عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال : ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة . وكان من هديه
قراءة السور الكاملة ، وربما قرأها في الركعتين وربما في أول السورة . وأما قراءة
أواخر السور وأوساطها فلم يحفظ عنه . وأما قراءة السورتين في الركعة فكان يفعله في
النافلة ، وأما في الفرض فلم يحفظ عنه ، وأما حديث ابن مسعود : إني لاعرف النظائر
التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن السورتين في الركعة . ( الرحمن )
( والنجم ) في ركعة . ( واقتربت ) و ( الحاقة ) في ركعة ، و ( والطور ) ( والذاريات
) في ركعة ، ( إذا وقعت ) و ( نون ) في ركعة . الحديث . فهذا حكاية فعل لم يعين
محله . هل كان في الفرض أو في النفل ؟ وهو محتمل . وأما قراءة سورة واحدة في ركعتين
معا فقلما كان يفعله . وقد ذكر أبو داود عن رجل من جهينة : أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقرأ في الصبح ( إذا زلزلت ) في الركعتين كلتيهما قال : فلا أدري .
أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدا . إطالة الركعة الاولى في الصبح
: وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الاولى على الثانية من صلاة الصبح ، ومن كل
صلاة وربما كان يطيلها حتى لا يسمع وقع قدم ، وكان يطيل صلاة الصبح أكثر من سائر
الصلوات . وهذا ، لان قرآن الفجر مشهود ، يشهده الله تعالى وملائكته . وقيل : يشهده
ملائكة الليل والنهار . والقولان مبنيان على أن النزول الالهي ، هل يدوم إلى انقضاء
صلاة الصبح أو إلى طلوع الفجر ؟ وقد ورد فيه هذا وهذا . وأيضا ، فإنها لما نقص عدد
ركعاتها جعل تطويلها عوضا عما نقصته من العدد ، وأيضا فإنها تكون عقيب النوم والناس
مستريحون ، وأيضا فإنهم لم يأخذوا بعد في استقبال المعاش وأسباب الدنيا ، وأيضا
فإنها تكون في وقت تواطأ السمع واللسان والقلب ، لفراغه وعدم تمكنه من الاشتغال فيه
. فيفهم القرآن ويتدبره ، وأيضا فإنها أساس العمل وأوله ، فأعطيت فضلا من الاهتمام
بها وتطويلها ، وهذه أسرار إنما يعرفها من له التفات إلى أسرار الشريعة ومقاصدها
وحكمها . صفة قراءته صلى الله عليه وسلم : وكانت قراءته مدا ، يقف عند كل آية ،
ويمد بها صوته . انتهى كلام ابن القيم . ما يستحب أثناء القراءة : يسن أثناء
القراءة ، تحسين الصوت وتزيينه : ففي الحديث . أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
زينوا أصواتكم بالقرآن ) وقال : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) وقال : ( إن أحسن
الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه وحسبتموه يخشى الله ) وقال : ( وما أذن الله
شئ ( 1 ) ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن ) . قال النووي : يسن لكل من قرأ في
الصلاة أو غيرها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله ، وإذا مر بآية عذاب
أن يستعيذ به من النار ، أو من العذاب ، أو من الشر ، أو من المكروه ، أو يقول :
اللهم إني أسألك العافية ، أو نحو ذلك ، وإذا مر بآية تنزيه لله سبحانه وتعالى نزه
الله فقال : ( سبحانه
( 1 ) ما
أذن الله ( أذن ) : استمع
وتعالى ، أو تبارك الله رب العالمين ؟ أو جلت
عظمة ربنا ، أو نحو ذلك . وروينا عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : ( صليت مع
النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فاتتح ( البقرة ) فقلت : يركع عند المائة ، ثم
مضى ، فقلت : يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ، ثم افتتح ( آل عمران ) فقرأها
ثم افتتح ( النساء فقرأها ، يقرأ مترسلا ، إذا مر بآية تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال
سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ، رواه مسلم . قال أصحابنا : يستحب هذا ، والتسبيح السؤال
والاستعاذة للقارئ في الصلاة وغيرها ، وللامام والمأموم والمنفرد ، لانه دعاء ،
فاستووا فيه ، كالتأمين ، ويستحب لكل من قرأ ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) أن يقول
: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ، وإذا قرأ ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى )
قال : بلى أشهد ، وإذا قرأ ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) قال آمنت بالله . وإذا قال (
سبح اسم ربك الاعلى ) قال : سبحان ربي الاعلى . ويقول هذا في الصلاة وغيرها . مواضع
الجهر والاسرار بالقراءة : والسنة أن يجهر المصلي في ركعتي الصبح والجمعة ،
والاوليين من المغرب والعشاء ، والعيدين والكسوف والاستسقاء ، ويسر في الظهر والعصر
، وثالثة المغرب والاخريين من العشاء . وأما بقية النوافل ، فالنهارية لا جهر فيها
، والليلية يخير فيها بين الجهر والاسرار . والافضل التوسط : مر رسول الله صلى الله
عليه وسلم ليلة بأبي بكر وهو يصلي ، يخفض صوته ، ومر بعمر وهو يصلي رافعا صوته ،
فلما اجتمعا عنده قال : ( يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك ؟ ) فقال : يا
رسول الله قد أسمعت من ناجيت ، وقال لعمر : ( مررت بك وأنت تصلي رافعا صوتك ) فقال
: يا رسول الله ، أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان . فقال صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا
بكر ارفع من صوتك شيئا ) وقال لعمر : ( اخفض من صوتك شيئا ) رواه أحمد وأبو داود .
وإن نسي فأسر في موضع الجهر ، أو جهر في موضع الاسرار فلاشئ عليه ، وإن تذكر أثناء
قراءته بنى عليها . القراءة خلف الامام
: الاصل أن الصلاة لا تصح إلا بقراءة سورة الفاتحة ، في كل ركعة من ركعات
الفرض والنفل كما تقدم في فرائض الصلاة إلا أن المأموم تسقط عنه القراءة ويجب عليه
الاستماع والانصات في الصلاة الجهرية ، لقول الله تعالى : ( وإذا قرئ القرآن
فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) . ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا
كبر الامام فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا ) صححه مسلم وعلى هذا يحمل حديث ( من كان له
إمام فقراءة الامام له قراءة ) : أي إن قراءة الامام له قراءة في الصلاة الجهرية ،
وأما الصلاة السرية فالقراءة فيها على المأموم وكذا تجب عليه القراءة في الصلاة
الجهرية ، إذا كان بحيث لا يتمكن من الاستماع للامام . قال أبو بكر بن العربي :
والذي نرجحه وجوب القراءة في الاسرار . لعموم الاخبار ( 1 ) ، أما الجهر فلا سبيل
إلى القراءة فيه لثلاثة أوجه : أحدها : أنه عمل أهل المدينة ، الثاني أنه حكم
القرآن قال الله تعالى : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) وقد عضدته السنة
بحديثين . أحدهما حديث عمران بن حصين ( قد ( 2 ) علمت أن بعضكم خالجنيها ( 3 ) ) .
الثاني : قوله : ( وإذا قرأ فأنصتوا ) . الثالث : الترجيح ، إن القراءة مع الامام
لا سبيل إليها ، فمتى يقرأ ؟ فإن قيل يقرأ في سكتة الامام قلنا . السكوت لا يلزم
الامام ، فكيف يركب فرض على ما ليس بفرض ؟ لا سيما وقد وجدنا وجها للقراءة مع الجهر
، وهي قراءة القلب بالتدبر والتفكر ، وهذا نظام القرآن والحديث وحفظ العبادة .
ومراعاة السنة ، وعمل بالترجيح انتهى . وهذا اختيار الزهري وابن المبارك ، وقول
لمالك وأحمد وإسحاق ، ونصره ورجحه ابن تيمية .
( هامش )
( 1 ) أدلة وجوب القراءة التي تقدم الكلام عليها في فرائض الصلاة . ( 2 ) قال له
النبي صلى الله عليه وسلم ، لما سمع رجلا يقرأ خلفه ( سبح اسم ربك الاعلى ) . ( 3 )
( خالجنيها ) نازعنيها .
( 7 ) تكبيرات الانتقال
: يكبر
في كل رفع وخفض وقيام وقعود ، إلا في الرفع من الركوع فإنه يقول : سمع الله لمن
حمده ، فعن ابن مسعود قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يكبر في كل خفض
ورفع وقيام وقعود . رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه . ثم قال والعمل عليه عند
أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم ، ومن بعدهم من التابعين ،
وعليه عامة الفقهاء والعلماء ، انتهى ، فعن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث أنه
سمع أبا هريرة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا قام إلى الصلاة يكبر
حين يقوم . ثم يكبر حين يركع ثم يقول : سمع الله لمن حمده ، حين يرفع صلبه من
الركعة ، ثم يقول وهو قائم : ربنا لك الحمد ، قبل أن يسجد ، ثم يقول : الله أكبر
حين يهوي ساجدا ، ثم يكبر حين يرفع رأسه ، ثم يكبر حين يقوم من الجلوس في اثنتين ،
ثم يفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة ، قال أبو هريرة : كانت هذه صلاته حتى
فارق الدنيا . رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود . وعن عكرمة قال قلت لابن عباس :
صليت الظهر بالبطحاء خلف شيخ أحمق ، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة ، يكبر إذا سجد ،
وإذا رفع رأسه . فقال ابن عباس : تلك صلاة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم رواه أحمد
والبخاري . ويستحب أن يكون ابتداء التكبير حين يشرع في الانتقال
.
( 8 ) هيئات الركوع
:
الواجب في الركوع مجرد الانحناء ، بحيث تصل اليدان إلى الركبتين ، ولكن السنة فيه
تسوية الرأس بالعجز ، والاعتماد باليدين على الركبتين مع مجافاتهما على الجنبين ،
وتفريج الاصابع على الركبة والساق ، وبسط الظهر . فعن عقبة بن عامر ( إنه ركع فجافى
يديه ، ووضع يديه على ركبتيه ، وفرج بين أصابعه من وراء ركبتيه وقال : هكذا رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي . وعن أبي حميد
: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع اعتدل ، ولم يصوب رأسه ولم يقنعه ( 1 )
،
( 1 ) (
يصوب ) يميل به إلى أسفل . ( يقنعه ) : يرفعه إلى أعلى
ووضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما ، رواه النسائي . وعند مسلم عن
عائشة رضي الله عنها : كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه . ولكن بين ذلك . وعن
علي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع ، لو وضع قدح من
ماء على ظهره لم يهرق ( 1 ) . رواه أحمد وأبو داود في مراسيله وعن مصعب بن سعد قال
: صليت إلى جانب أبي ، فطبقت بين كفي ثم وضعتهما بين فخذي . فنهاني عن ذلك وقال :
كنا نفعل هذا ، فأمرنا أن نضع أيدينا على الركب . رواه الجماعة
.
( 9 ) الذكر فيه
: يستحب
الذكر في الركوع بلفظ ( سبحان ربي العظيم ) . فعن عقبة بن عامر قال : لما نزلت (
فسبح باسم ربك العظيم ) قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم ( اجعلوها في ركوعكم )
رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بإسناد جيد . وعن حذيفة قال : صليت مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه : ( سبحان ربي العظيم ) رواه مسلم وأصحاب السنن
. وأما لفظ ( سبحان ربي العظيم وبحمده ) فقد جاء من عدة طرق كلها ضعيفة . قال
الشوكاني : ولكن هذه الطرق تتعاضد ، ويصح أن يقتصر المصلي على التسبيح ، أو يضيف
إليه أحد الاذكار الاتية : 1 - عن علي رضي الله
عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال : ( أللهم لك ركعت ، وبك آمنت ،
ولك أسلمت ، وأنت ربي خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب
العالمين ) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم .
2 - عن عائشة رضي الله عنها أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده : ( سبوح قدوس ( 2 ) رب
الملائكة والروح ) .
3 - وعن عوف بن مالك الاشجعي
قال : قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقام فقرأ سورة ( البقرة ) إلى
أن قال فكان يقول في ركوعه :
( 1 ) (
يهرق ) : يصب منه شئ ، لاستواء ظهره . ( 2 ) ( سبوح قدوس ) الفصيح منها ، ضم الاول
، وهما خبر لمبتدأ محذوف أنت ؟ تقدير معناهما أنت منزه ومطهر عن كل ما لا يليق
بجلالك .
وسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة )
رواه أبو داود والترمذي والنسائي . وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي )
يتأول القرآن ( 1 ) رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم .
( 1 ) (
يتأول القرآن ) : أي يعمل بقبول الله تعالى ( فسبح بحمد ربك واستغفره
( 10 ) أذكار الرفع من
الركوع والاعتدال : يستحب للمصلي - إماما أو مأموما أو منفردا - أن يقول عند الرفع من
الركوع : سمع الله لمن حمده ، فإذا استوى قائما فليقل : ربنا ولك الحمد ، أو :
اللهم ربنا ولك الحمد ، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : سمع
الله لمن حمده ، حين يرفع صلبه من الركعة ، ثم يقول وهو قائم : ربنا ولك الحمد ،
رواه أحمد والشيخان . وفي البخاري من حديث أنس : وإذا قال : سمع الله لمن حمده .
فقولوا : اللهم ربنا ولك الحمد . يرى بعض العلماء . أن المأموم لا يقول ( سمع الله
لمن حمده ) بل إذا سمعها من الامام يقول : اللهم ربنا ولك الحمد . لهذا الحديث .
ولحديث أبي هريرة عند أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قال
الامام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد ، فإن من وافق قوله قول
الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) ولكن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلوا
كما رأيتموني أصلي ) يقتضي أن يجمع كل مصل بين التسبيح والتحميد ، وإن كان مأموما
ويجاب عما استدل به القائلون ( بأن المأموم لا يجمع بينهما ) بل يأتي بالتحميد فقط
، بما ذكره النووي قال : قال أصحابنا ، فمعناه قولوا : ( ربنا لك الحمد ) مع ما قد
علمتموه من قول سمع الله لمن حمده ، وإنما خص هذا بالذكر ، لانهم كانوا يسمعون جهر
النبي صلى الله عليه وسلم ( سمع الله لمن حمده ) فإن السنة فيه الجهر ولا يسمعون
قوله : ربنا لك الحمد ، لانه يأتي به سرا . وكانوا يعلمون قوله صلى الله عليه وسلم
: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) مع قاعدة التأسي به صلى الله عليه وسلم مطلقا ،
وكانوا يوافقون في ( سمع الله لمن حمده ) فلم يحتج إلى الامر به ، ولا يعرفون (
ربنا لك الحمد ) فأمروا به . هذا أقل ما يقتصر عليه في التحميد حين الاعتدال ويستحب
الزيادة على ذلك بما جاء في الاحاديث الاتية :
1 - عن رفاعة بن رافع قال : كنا نصلي يوما وراء النبي
صلى الله عليه وسلم ، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة وقال :
سمع الله لمن حمده ، قال رجل وراءه : ( ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه )
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من المتكلم آنفا ) ؟ قال الرجل :
أنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد رأيت بضعة ( 1 )
وثلاثين ملكا يبتدرونها ، أيهم يكتبها أولا ) رواه أحمد والبخاري ومالك وأبو داود .
وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع من الركعة قال :
( سمع الله لمن حمده وربنا ولك الحمد مل ء ( 2 ) السموات والارض وما بينهما ، ومل ء
ما شئت من شئ بعد ) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي .
3 - وعن عبد الله بن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : وفي لفظ
: يدعو ، إذا رفع رأسه من الركوع : ( اللهم لك الحمد مل ء السماء ومل ء الارض ومل ء
ما شئت من شئ بعد : اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد ، اللهم طهرني من
الذنوب ونقني منها كما ينقى الثوب الابيض من الوسخ ) رواه أحمد ومسلم وأبو داود
وابن ماجة . ومعنى الدعاء : طلب الطهارة الكاملة .
4 - وعن أبي سعيد الخدري قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال : ( سمع الله لمن حمده ) قال : ( اللهم
ربنا لك الحمد مل ء السموات ومل ء الارض ومل ء ما شئت من شئ بعد أهل الثناء والمجد
( 3 ) أحق ما قال
( 1 ) (
البضع ) من الثلاثة إلى العشرة . ( 2 ) ( مل ء ) بفتح الهمزة ، هذا هو المشهور أي
لو جسم الحمد لملا السموات والارض وما بينهما لعظمه . ( 3 ) ( أهل الثناء والمجد )
أهل منصوب على النداء أو الاختصاص ) أي يا أهل الثناء ! أو مدح أهل الثناء . ( الجد
) بفتح الجيم على المشهور ! الحظ والعظمة . والغني : أي لا ينفعه ذلك ، وإنما ينفعه
العمل الصالح
العبد ، وكلنا لك عبد : لا مانع لما أعطيت . ولا
معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) رواه مسلم وأحمد وأبو داود
.
5 - وصح عنه صلى الله عليه وسلم
: أنه كان يقول بعد ( سمع الله لمن حمده ) ( لربى الحمد ، لربي الحمد ) حتى يكون
اعتداله قدر ركوعه .
( 11 ) كيفية الهوي إلى
السجود والرفع منه : ذهب الجمهور إلى استحباب وضع الركبتين قبل اليدين ، حكاه ابن المنذر عن
عمر النخعي ومسلم بن يسار وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي قال : وبه أقول
، انتهى . وحكاه أبو الطيب عن عامة الفقهاء . وقال ابن القيم : وكان صلى الله عليه
وسلم يضع ركبتيه قبل يديه ثم يديه بعدهما ثم جبهته وأنفه هذا هو الصحيح الذي رواه
شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه . عن وائل بن حجر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه ولم يرو في فعله
ما يخالف ذلك ، انتهى . وذهب مالك والاوزاعي وابن حزم إلى استحباب وضع اليدين قبل
الركبتين ، وهو رواية عن أحمد . قال الاوزاعي : أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم
. وقال ابن أبي داود : وهو قول أصحاب الحديث . وأما كيفية الرفع من السجود حين
القيام إلى الركعة الثانية ، فهو على الخلاف أيضا ، فالمستحب عند الجمهور أن يرفع
يديه ثم ركبتيه ، وعند غيرهم يبدأ برفع ركبتيه قبل يديه .
( 12 ) هيئة السجود :
يستحب للساجد أن يراعي في سجوده ما يأتي :
1 - تمكين أنفه وجبهته ويديه
على الارض ، مع مجافاتهما عن جنبيه ، فعن وائل بن حجر : أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما سجد وضع جبهته بين كفيه وجافى عن إبطيه . رواه أبو داود . وعن أبي حميد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الارض ، ونحى يديه عن
جنبيه ، ووضع كفيهحذو منكبيه ، رواه ابن خزيمة والترمذي وقال : حسن صحيح
.
2 - وضع الكفين حذو الاذنين أو
حذو المنكبين ، وقد ورد هذا وذاك ، وجمع بعض العلماء بين الروايتين ، بأن يجعل طرفي
الابهامين حذو الاذنين ، وراحتيه حذو منكبيه .
3 - أن يبسط أصابعه مضمومة ،
فعند الحاكم وابن حبان : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع فرج بين أصابعه .
وإذا سجد ضم أصابعه .
4 - أن يستقبل بأطراف أصابعه
القبلة فعند البخاري من حديث أبي حميد : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد
وضع يديه غير مفترشهما ولا قابضهما ، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة
.
( 13 ) مقدار
السجود وأذكاره : يستحب أن يقول الساجد حين سجوده : ( سبحان ربي الاعلى ) . فعن عقبة بن
عامر قال : لما نزلت ( سبح اسم ربك الاعلى ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
اجعلوها في سجودكم ) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم ، وسنده جيد . وعن
حذيفة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده : ( سبحان ربي الاعلى )
رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن . وقال الترمذي : حسن صحيح . وينبغي أن لا ينقص
التسبيح في الركوع والسجود عن ثلاث تسبيحات . قال الترمذي : والعمل على هذا عند أهل
العلم ، يستحبون أن لا ينقص الرجل في الركوع والسجود عن ثلاث تسبيحات ، انتهى .
وأما أدنى ما يجزئ فالجمهور على أن أقل ما يجزئ في الركوع والسجود قدر تسبيحة واحدة
. وقد تقدم أن الطمأنينة هي الفرض وهي مقدرة بمقدار تسبيحة . وأما كمال التسبيح
فقدره بعض العلماء بعشر تسبيحات لحديث سعيد بن جبير عن أنس قال : ( ما رأيت أحدا
أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الغلام ، يعني عمر بن عبد العزيز
فحزرنا في الركوع عشر تسبيحات ( 1 )
( 1 ) (
حزرنا ) : أي قدرنا .