[center]الأشعرية.. أهل السنة عبر العصور
اشتكى لي بعض الشباب مِن
توجُّهٍ بدأ يشيع في أوساطهم، يستعمل كلمة الأشعرية أو الأشاعرة وكأنها سبٌّ كفيلٌ
بأن ينفر الناس من ذلك العالم الذي يوصف بالأشعرية، وسألني: من هم هؤلاء الأشاعرة
وما قصتهم؟ فقلت له: إن المذهب الأشعري هو مذهب أهل السنة والجماعة منذ نشأته وحتى
يومنا هذا، وهو المذهب الذي يُدرس في الأزهر الشريف، وهو المذهب الذي عليه جماهير
أتباع الأئمة الأربعة: الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وكلمة الأشعرية
نسبة للإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل وهو من أحفاد الصحابي الجليل أبي موسى
الأشعري، ولد في حدود سنة 260 هجرية، ومات في حدود سنة 330 هجرية، وهناك اختلاف في
تحديد مولده ووفاته، درس مذهب الاعتزال على الجبائي لمدة عشرين عامًا، وهو مذهب
يعتمد على العقل ويقدمه على النقل وظاهر النصوص، وانطلق أبو الحسن الأشعري من
فرضية أخرى وهي عدم وجود أي تناقض بين المعقول والمنقول، وهو مذهب أهل السنة
السابقين عليه كالشافعي ومالك وغيرهم، ولذلك فليس هناك حاجة لتقديم المنقول على
المعقول كما يفعل النصوصيون ولا لتقديم المعقول على المنقول كما يفعل المعتزلة، وبهذا
يتبين أنه ليست هناك ثنائية بين المنقول وبين المعقول بل هما وجهان لعملة واحدة.
إن هذا الفكر المبني على
تلك الدراسة العتيقة والمبني على التأمل والنظر، والمبني على إيجاد حلول للمشكلات
الفكرية المعروضة على الساحة، قَبِله كلُّ العلماء قبولاً تامًّا حتى رأينا أن
المعتزلة انتهت أو كادت أن تنتهي في القرن الرابع الهجري، وما ذلك إلا بفضل أبي
الحسن الأشعري الذي بنى كلامه على الكتاب والسنة وعلى صحيح المعقول، وكان أبو
الحسن الأشعري في بعض الأحيان يعرض قولين في المسألة يمكن الأخذ بأحدهما، فكل واحد
من القولين يعد حلاًّ مقبولاً للمشكلة.
2- ولقد تطور المذهب الأشعري
الذي بنى هذا المنهج والذي دعا الناس لأن تعيش عصرها ولا تقف عند عصر النبوة فقط،
بل النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك لنا منهج التفكير الذي نواجه به المحدثات سواء
الفكرية أو العملية، ولذلك نرى تطور المذهب على يدي الإمام الباقلاني (403 هـ)
والجويني (478 هـ) ثم الإمام الغزالي (505 هـ) ثم بعد ذلك الإمام الرازي
(606 هـ) والآمدي (631 هجري) وصولاً إلى الإيجي (756
هـ) والسعد التفتازاني
(793 هـ)، والشريف الجرجاني (816 هـ). ومن الأشاعرة: الإمام النووي (676 هـ) شارح
صحيح مسلم وصاحب رياض الصالحين، والإمام ابن حجر العسقلاني (852 هـ) شارح صحيح
البخاري في كتابه الكبير "فتح الباري". وكل مَن
يعتمد عليه طلاب العلم من العلماء عبر العصور إلى يومنا هذا.
3- واستقر اتِّباع المسلمين
من أهل السنة والجماعة للمذهب الأشعري باعتباره هو المذهب العلمي الأدق والأوسع،
ولقد ألف الأشعري نحو سبعين كتابا؛ منها كتاب صغير طبع عدة مرات في دائرة المعارف
العثمانية بحيدر أباد الدَّكِّنْ بالهند، اسمه "استحسان الخوض في علم
الكلام"، وهو لا يتعدى ثلاث عشرة صفحة بَيَّنَ فيها استنباط الأصول العقلية من
الكتاب والسنة.
4- وفي مجموع فتاوى ابن تيمية
في المجلد الثالث، وهو يحكي عن مناظرة صفي الدين الهندي إمام الأشاعرة لابن تيمية
في صفحة 187؛ قال الصفي الهندي: (قلت له أنتم ما لكم على الرجل اعتراض؛ فإنه نصر
ترك التأويل وأنتم تنصرون قول التأويل، وهما قولان للأشعري)، ونقلُ ابنِ تيمية هذا
وقبولُه له يدل على أنه كان أشعريًّا ورضي بذلك، ولكن بعضهم يحاول أن يجعله على
مذهب ابتدعوه اسمه مذهب السلف، والسلف ليس مذهبًا، إنه فترة تاريخية مباركة شهدَت
تمسك المسلمين بدينهم وشهدَت أيضا بناء حضارتهم، وفصَّل هذا المعنى العلامةُ محمد
سعيد البوطي في كتابه "السلفية", وهو بالأسواق.
ودأب السلفيون المعاصرون
في محاولة أخرى لاجتذاب الأشعري لآرائهم النصوصية، فكثيرًا ما يؤكدون فكرة الفصل
الكامل بين الأشعري وأفكار المدرسة المنسوبة إليه، والحق أن الأشعري اقتنع تمامًا
بنبذ الفكر الاعتزالي وبنبذ الفكر النصوصي أيضًا، وصار منهجًا هو المقبول عند أهل
السنة والجماعة إلى يومنا هذا.
5- ولذلك فإن الذي يعيب على
الأشعرية ويعتبرها مانعًا من قبول العلماء, ويَرُدّ بذلك ما عليه علماء الأزهر حتى
في الفقه من أجل أنهم أشاعرة، قد جهل أنه بذلك أنكر منهج الوسطية وأنه صار بذلك
رجعيًّا يتصور أن الإسلام يصلح لعصر دون عصر, ويحاول أن يسحب الماضي على الحاضر, وأنه بذلك قد خالف هدي
القرآن وهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم معًا، ولقد حذرنا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم من هذا الصنف من الناس الذين يتكلمون بغير علم، وفي الحديث: «يَأْتِي
فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ،
يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا
يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ» (صحيح البخاري)، إن هؤلاء
قد خطوا بمنهجهم المعوج بداية طريق التطرف ثم الإرجاف وهم الدائرة الأوسع التي
ينبت منها الدماء البريئة التي تسيل من جراء الجهل بالدين، قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: «مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا
وَلاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ
مِنِّي وَلَسْتُ مِنْه» (صحيح مسلم).
6- ولقد ألف الإمام ابن عساكر
الدمشقي (المتوفى سنة 571 هجرية) كتابه الماتع "تبيين
كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري"، وبين فيه اتِّباع
جماهير العلماء وأئمتهم عبر العصور إلى القرن السادس لهذا المذهب العلمي الدقيق،
ومِن الدراسات الجيدة التي بُذِل فيها جهد مشكور كتاب الدكتور جلال موسى بعنوان
"نشأة الأشعرية وتطورها", طبع بدار الكتاب اللبناني ببيروت, وتعد كتابات
المرحوم علي سامي النشَّار وكتابات العلامة طه عبد الرحمن -متعنا الله بحياته- من
المجهودات الكبيرة في دراسة هذا المذهب, ويكفي أن قلعة الإسلام تدرسه في مناهجها؛
أعني الأزهر الشريف.
اشتكى لي بعض الشباب مِن
توجُّهٍ بدأ يشيع في أوساطهم، يستعمل كلمة الأشعرية أو الأشاعرة وكأنها سبٌّ كفيلٌ
بأن ينفر الناس من ذلك العالم الذي يوصف بالأشعرية، وسألني: من هم هؤلاء الأشاعرة
وما قصتهم؟ فقلت له: إن المذهب الأشعري هو مذهب أهل السنة والجماعة منذ نشأته وحتى
يومنا هذا، وهو المذهب الذي يُدرس في الأزهر الشريف، وهو المذهب الذي عليه جماهير
أتباع الأئمة الأربعة: الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وكلمة الأشعرية
نسبة للإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل وهو من أحفاد الصحابي الجليل أبي موسى
الأشعري، ولد في حدود سنة 260 هجرية، ومات في حدود سنة 330 هجرية، وهناك اختلاف في
تحديد مولده ووفاته، درس مذهب الاعتزال على الجبائي لمدة عشرين عامًا، وهو مذهب
يعتمد على العقل ويقدمه على النقل وظاهر النصوص، وانطلق أبو الحسن الأشعري من
فرضية أخرى وهي عدم وجود أي تناقض بين المعقول والمنقول، وهو مذهب أهل السنة
السابقين عليه كالشافعي ومالك وغيرهم، ولذلك فليس هناك حاجة لتقديم المنقول على
المعقول كما يفعل النصوصيون ولا لتقديم المعقول على المنقول كما يفعل المعتزلة، وبهذا
يتبين أنه ليست هناك ثنائية بين المنقول وبين المعقول بل هما وجهان لعملة واحدة.
إن هذا الفكر المبني على
تلك الدراسة العتيقة والمبني على التأمل والنظر، والمبني على إيجاد حلول للمشكلات
الفكرية المعروضة على الساحة، قَبِله كلُّ العلماء قبولاً تامًّا حتى رأينا أن
المعتزلة انتهت أو كادت أن تنتهي في القرن الرابع الهجري، وما ذلك إلا بفضل أبي
الحسن الأشعري الذي بنى كلامه على الكتاب والسنة وعلى صحيح المعقول، وكان أبو
الحسن الأشعري في بعض الأحيان يعرض قولين في المسألة يمكن الأخذ بأحدهما، فكل واحد
من القولين يعد حلاًّ مقبولاً للمشكلة.
2- ولقد تطور المذهب الأشعري
الذي بنى هذا المنهج والذي دعا الناس لأن تعيش عصرها ولا تقف عند عصر النبوة فقط،
بل النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك لنا منهج التفكير الذي نواجه به المحدثات سواء
الفكرية أو العملية، ولذلك نرى تطور المذهب على يدي الإمام الباقلاني (403 هـ)
والجويني (478 هـ) ثم الإمام الغزالي (505 هـ) ثم بعد ذلك الإمام الرازي
(606 هـ) والآمدي (631 هجري) وصولاً إلى الإيجي (756
هـ) والسعد التفتازاني
(793 هـ)، والشريف الجرجاني (816 هـ). ومن الأشاعرة: الإمام النووي (676 هـ) شارح
صحيح مسلم وصاحب رياض الصالحين، والإمام ابن حجر العسقلاني (852 هـ) شارح صحيح
البخاري في كتابه الكبير "فتح الباري". وكل مَن
يعتمد عليه طلاب العلم من العلماء عبر العصور إلى يومنا هذا.
3- واستقر اتِّباع المسلمين
من أهل السنة والجماعة للمذهب الأشعري باعتباره هو المذهب العلمي الأدق والأوسع،
ولقد ألف الأشعري نحو سبعين كتابا؛ منها كتاب صغير طبع عدة مرات في دائرة المعارف
العثمانية بحيدر أباد الدَّكِّنْ بالهند، اسمه "استحسان الخوض في علم
الكلام"، وهو لا يتعدى ثلاث عشرة صفحة بَيَّنَ فيها استنباط الأصول العقلية من
الكتاب والسنة.
4- وفي مجموع فتاوى ابن تيمية
في المجلد الثالث، وهو يحكي عن مناظرة صفي الدين الهندي إمام الأشاعرة لابن تيمية
في صفحة 187؛ قال الصفي الهندي: (قلت له أنتم ما لكم على الرجل اعتراض؛ فإنه نصر
ترك التأويل وأنتم تنصرون قول التأويل، وهما قولان للأشعري)، ونقلُ ابنِ تيمية هذا
وقبولُه له يدل على أنه كان أشعريًّا ورضي بذلك، ولكن بعضهم يحاول أن يجعله على
مذهب ابتدعوه اسمه مذهب السلف، والسلف ليس مذهبًا، إنه فترة تاريخية مباركة شهدَت
تمسك المسلمين بدينهم وشهدَت أيضا بناء حضارتهم، وفصَّل هذا المعنى العلامةُ محمد
سعيد البوطي في كتابه "السلفية", وهو بالأسواق.
ودأب السلفيون المعاصرون
في محاولة أخرى لاجتذاب الأشعري لآرائهم النصوصية، فكثيرًا ما يؤكدون فكرة الفصل
الكامل بين الأشعري وأفكار المدرسة المنسوبة إليه، والحق أن الأشعري اقتنع تمامًا
بنبذ الفكر الاعتزالي وبنبذ الفكر النصوصي أيضًا، وصار منهجًا هو المقبول عند أهل
السنة والجماعة إلى يومنا هذا.
5- ولذلك فإن الذي يعيب على
الأشعرية ويعتبرها مانعًا من قبول العلماء, ويَرُدّ بذلك ما عليه علماء الأزهر حتى
في الفقه من أجل أنهم أشاعرة، قد جهل أنه بذلك أنكر منهج الوسطية وأنه صار بذلك
رجعيًّا يتصور أن الإسلام يصلح لعصر دون عصر, ويحاول أن يسحب الماضي على الحاضر, وأنه بذلك قد خالف هدي
القرآن وهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم معًا، ولقد حذرنا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم من هذا الصنف من الناس الذين يتكلمون بغير علم، وفي الحديث: «يَأْتِي
فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ،
يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا
يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ» (صحيح البخاري)، إن هؤلاء
قد خطوا بمنهجهم المعوج بداية طريق التطرف ثم الإرجاف وهم الدائرة الأوسع التي
ينبت منها الدماء البريئة التي تسيل من جراء الجهل بالدين، قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: «مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا
وَلاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ
مِنِّي وَلَسْتُ مِنْه» (صحيح مسلم).
6- ولقد ألف الإمام ابن عساكر
الدمشقي (المتوفى سنة 571 هجرية) كتابه الماتع "تبيين
كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري"، وبين فيه اتِّباع
جماهير العلماء وأئمتهم عبر العصور إلى القرن السادس لهذا المذهب العلمي الدقيق،
ومِن الدراسات الجيدة التي بُذِل فيها جهد مشكور كتاب الدكتور جلال موسى بعنوان
"نشأة الأشعرية وتطورها", طبع بدار الكتاب اللبناني ببيروت, وتعد كتابات
المرحوم علي سامي النشَّار وكتابات العلامة طه عبد الرحمن -متعنا الله بحياته- من
المجهودات الكبيرة في دراسة هذا المذهب, ويكفي أن قلعة الإسلام تدرسه في مناهجها؛
أعني الأزهر الشريف.
[/center]